محمد بن عبدالله آل شملان
من يقدر منَّا أن ينسى ذلك اليوم، من يقدر أن لا يتذكره، نحن الذين فتحنا عيوننا على الدنيا وحتى الآن واسم عبدالعزيز ملء السمع، وصورة عبدالعزيز ملء البصر، والدنيا تضج حياةً بوجوده بيننا حتى الآن؟! بنتائج ما حققه.
تفاصيل يوم الخامس من شوال عام 1319هـ الموافق 15 يناير 1902م ما زالت ماثلة أمام العيان، ومن ودّع الدنيا في ذلك اليوم من رفاقه ما زال أبناؤه وأحفاده مقيمين في الوجدان، رغم مرور مئة وعشرين عاماً على الفتح العظيم.
ونظرة أبناء الملك المؤسس لوالدهم، وافتخارهم به - طيب الله ثراه - في مجالسهم العامرة والمناسبات الرسمية أو الشعبية عبر أحاديثهم وحوارتهم عنه ما زالت مؤثرة فينا؛ تلك النظرة التي تختصر تقدير الدور، وتجسد معاني المكتسبات الكبيرة، وتعبّر عن مشاعر أبناء هذا الوطن الكبير (المملكة العربية السعودية) نحو والدهم الذي يفخرون به وهم عارفون ومتيقنون أنه القائد الموحد، حامي العقيدة، ومنشئ وطن عزيز مستقر بلا خرافة أو منازعات.
كانت شمس الحادي والعشرين من شهر رمضان تأذن بالمغيب، وكانت الأنباء تتواتر عن أن ثمة خبراً يوشك أن يتم الإعلان عنه، وكانت قلوب أبناء نجد ترجو أن يكون دخول الرياض هو ذلك الخبر.
بانت مقدمات الخبر بتجهيز عبدالعزيز جيشاً من ركائب وأسلحة ومؤن ونيته للتوجه إلى الرياض برفقة ثلاثة وستين رجلاً من أقربائه ورجاله الذين خرجوا معه من الكويت، وجاء في منتصف نهار الخامس من شوال ذلك النبأ العظيم، معلناً انتصار الوالد الكبير والباني المؤسس، الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - طيب الله ثراه -، ليعم الفرح
أهالي الرياض كلهم مبايعين له ومسرورين بعودته، لأن عبدالعزيز - طيب الله ثراه - لم تكن أمنيته باسترداد الرياض لوحده وإنما كانت أماني أهالي الرياض كلهم بما خطط له وفكّر في تحقيقه سيبقى خالداً، منه ما عرفنا تفاصيله ومنه ما لم نعرف.
كان فتح الرياض يوماً عظيماً، وكان اختباراً كبيراً لصبر عبدالعزيز ورجاله، وقدرتهم على تجاوز الصدمة. فالملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه -، تعرّض لمضايقة الدولة العثمانية له ولأتباعه من بعض أفراد القبائل الذين انضموا إليه وقد تجاوز عددهم الألفين خلال فترة امتدت لنحو أربعة أشهر الذين انفض عنه الكثير منهم، ناهيك عن الجواسيس الذين يقعون ضمن دائرة المحيطين بعبدالعزيز.
إضافة إلى الرسالة الأبوية التي وصلته من والده يدعوه فيها إلى العودة إلى الكويت وعدم إكمال مهمته التي كان دافعها الخوف عليه من خطورة المعركة التي سيخوضها، لم يكن عبدالعزيز زعيماً سياسياً أو ملكاً فقط، وإنما كان والداً للجميع، فعندما قرأ الملك عبدالعزيز رسالة والده ثم نظر إلى أتباعه ورفقاء طريقه وجمعهم حوله في مشورة انبلج شعاعها منذ بداية الطريق، وقرأ عليهم رسالة والده، ثم قال: «لا أزيدكم علمًا بما نحن فيه (إشارة إلى المعاناة)، وهذا كتاب والدي يدعونا للعودة إلى الكويت قرأته عليكم، أنتم أحرار في ما تتخذونه لأنفسكم، فمن أراد الراحة ولقاء أهله فإلى يساري «، لكن رفقاء الطريق جميعهم تواثبوا إلى يمينه، وأعلنوا قرارهم التاريخي بأن يصحبوه حتى يتحقق الأمر الذي يقصده، وعندئذ التفت الملك عبد العزيز إلى مبعوث والده، وقال «سلّم على الإمام وخبِّره بما رأيت، واسأله الدعاء لنا، وقل له موعدنا -إن شاء الله- في الرياض».
في ذكرى الخامس من شوال يتكاثر الشجن، وتتقافز الفرحة فوق أوتار عود (المُلك لله ثم لعبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود)، ويتربّى فيها الأمن والتنمية والوحدة.
في ذكرى الخامس من شوال تستدعي الذاكرة مشهد البطولة الوطنية التي صنعها الملك عبدالعزيز ورجاله؛ لنستلهم أجواء النصر الممزوج بروح حب الوطن وإرادة التضامن معه ومع قيادته الرشيدة من أجل الحفاظ على الأرض والمكتسب.
في هذه الذكرى يعترف التاريخ بحقيقة الأدوار التي لعبها الملك عبدالعزيز في تقديم كل وسائل الدعم والإصرار في تحقيق هذا المنجز العظيم. فمن رأسه إلى أخمص قدميه حرص الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - على تحقيق مبدأ «موعدنا - إن شاء الله - في الرياض» كما هي حكاية ما قاله الملك عبد العزيز لوالده في الكويت كما رواها الزركلي في كتابه شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز حينما قال: «إما أن تأمر أحد رجالك بانتزاع رأسي من بين كتفي فأستريح من هذه الحياة وإما أن تنهض من توّك فلا تخرج من منزل شيخ الكويت إلا بوعد في تسهيل خروجي للقتال في بطن نجد».
المغفور له - بإذن الله - الملك المؤسس عبدالعزيز - طيب الله ثراه - بعد ذلك الحدث، تحمّس ببطولة وقوة ووضوح وكان يريد أن يوسع مساحته الجغرافية مستغلاً انشغال ابن رشيد في محاولة ضم الكويت لملكه، وكان له ما أراد حيث استطاع أن يضم الخرج والحوطة والحريق والأفلاج ووادي الدواسر. ودخل في تحديات كبيرة مع قوى مناوئة إلا أنه تغلب عليها ففتح عبد العزيز القصيم ودخل الأحساء وعسير وحائل والحجاز.
إن هذا الحدث الخالد لا يزال يهدي الطريق أمام الباحثين عن الحفاظ على الكرامة والعزة، فرغم مرور 120 عاماً على هذا الانتصار الكبير، إلا أنه لا يزال جوهراً مهماً ترجع له المؤسسات العسكرية في التحليل والدراسة وتقدير المواقف لما تضمنه من كشف عن مواهبه وقدراته على التخطيط والتفكير كقائد محنك، وعن عبقرية فذة، وما اتسم به من شجاعة وقوة وعزيمة وحسن تدبير ومن سرعة في البديهة بالتغيير في خطة الهجوم والعمل على اقتحام المصمك، ومن مفاجآت عجز عجلان عن مواجهته وتبدّدتْ على إثرها أسطورة قوة عجلان التي لا تُقهر.
إن سيرة فتح الرياض ليست سيرة عادية، إنها سيرة منطقة بمناطق، وجزء بأجزاء، ترددها الأجيال، ليهتدوا بإشراقاتها المتعددة، فهي شموس إلهام كثيرة لا شمس واحدة، فهي بداية تأسيس المملكة العربية السعودية، ورافعة لوائها، وهي مدرسة في نعوتها الكثيرة، تحمل موادها الدهاء والتشاور والتآزر والرفق والحكمة وقوة الشكيمة والفراسة وبعد النظر والعمل والبناء الدؤوب والتضحية والفداء.
لقد استطاع الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - التغلب على التحديات الكثيرة بفتحه الرياض ليصنع تاريخاً جديداً مجيداً لوطنه، بميلاد دولة سعودية جديدة غيَّرت حياة الساكنين فيها، وحوّلتهم بعد ذلك من أقاصى الفقر إلى قمة رغد العيش، ومن الهوان والضعف إلى العزة والقوة، حتى أصبح لهم شأن كبير بين الأمم، يجدون التقدير والاحترام أينما حلوا وارتحلوا، ويُضرب المثل بوطنهم في الازدهار والرفعة، وبقيادتهم في الحكمة والإنسانية والحزم، وبشعبهم في السمعة الحسنة والأصالة.
في هذه الذكرى لابد أن نأخذ من موقف صقر الجزيرة - طيب الله ثراه - اتجاه وطنه في فتح الرياض نموذجاً نحن في أمس الحاجة إليه الآن، فوسط مؤامرات يحيك لها الأعداء تستهدف وطننا ومحاولات الخونة لشق صفه، فليس هناك بديل أمامنا سوى استدعاء وطنية الخامس من شوال ووقوف قيادة هذا الوطن الراشد ومواطنيه كتلة واحدة من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه ووسطه.
فالمعركة التي تدور رحاها الآن من المتربصين بهذا الوطن الكريم وكل من تتسرب إليه عدوى الضلال ولوثة الفساد هي معركة وجود لوطننا الكبير (المملكة العربية السعودية) بأكمله، فالتحديات متشابكة ومتوازية ومتقاطعة وأطراف لهيب الحاسدين يطارد الوطن. فملف الإرهاب وخطر التدخلات الإيرانية في الدول التي حولنا، وملف الأبواق المأجورة والأصوات النشاز عبر شبكات الإنترنت، وغيرها من الملفات التي تتعلق بالأمن الوطني، كلها ملفات تحتاج إلى العمل الوطني المشترك بالدافعية والوتيرة نفسها التي قادها الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه -، لاسيما أن التحديات الراهنة لا تقل خطورة وجسامة وتحتاج في مواجهتها إلى منصات الوطنية التي كانت تدير الخامس من شوال 1319هـ في الخامس عشر من يناير 1902م.
لقد أكّد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز - أيده الله - الحقيقة المشرقة عن هذا الحدث بتعميق أسس الانتماء للأرض، وزرع القيم الوطنية، والمحافظة على الأعراف والتقاليد والقيم الفاضلة، والتذكير بمنهج الآباء والأجداد والتاريخ، قائلاً: «الحراك الثقافي الذي تعيشه المملكة - والحمد لله- شيء مما نعتز به، وشيء متواصل مع تاريخنا، والحمد لله الأمن والاستقرار في المملكة جعلها اليوم في نشاط مفيد علميًا وثقافيًا من كل الجهات في هذا المكان (المصمك) الذي بدأ توحيد المملكة بأفراد لا يتعدون الـ63 فردًا، جمعت - والحمد لله - الشعب وكونت الوحدة في هذه البلاد على كتاب الله وسنة رسوله، وهذا شيء - والحمد لله - نعتبره منة من الله - عز وجل - وفق الملك عبد العزيز ورجاله إلى أن وحدوا هذه البلاد - والحمد لله - حتى أصبحت بلداً موحداً تعتز بدينها وتعمل بكتاب الله وسنة رسوله، والحمد لله ملوكنا منذ الملك عبد العزيز والملك سعود والملك فيصل والملك خالد والملك فهد والملك عبد الله وولي عهده الأمين على نهج أسلافهم ونهج والدهم ونهج هذه الدولة التي -والحمد لله- تجمع ولا تفرق، وهذه الدولة يسهر ملوكها على مصالح شعبها، وهذه نعمة من الله عز وجل». وأضاف: «اقرأوا تاريخ آبائكم، زوروا هذا المتحف، زوروا المصمك ومعالم هذه البلاد القديمة وما نحن فيه الآن، ويجب أن نحمد الله على ما نحن فيه، ويجب أن يعرف شبابنا كيف تكونت هذه الوحدة المبنية على العقيدة الإسلامية وحدة عربية إسلامية والحمد لله».
وها هو صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع يعزز ذلك المعنى في ذكرى اليوم الوطني قائلاً: «نشكره - تعالى - على ما تزخر به بلادنا من ثروات وإمكانات وموارد بشرية مؤهلة، وما تتمتع به من موقع إستراتيجي مميز.. كل هذا أهَّلها لتكون في مصاف الدول المتقدمة؛ ما يدعونا إلى المحافظة على مكتسباتنا، ومواصلة العمل لتحقيق مزيد من التقدم والنجاح».
رحم الله فاتح رياضنا ومؤسس وطننا الملك عبدالعزيز رحمة واسعة، وأعلى شأنه، ورفع قدره في الفردوس الأعلى من الجنة، ومنح البركة أبناءه وأحفاده، وأعطانا الوفاء له مثلما كان وافياً لوطنه وشعبه وأمته.