د. محمد بن إبراهيم الملحم
انطلاقاً من أن البحث العلمي التربوي المتصل بالتنمية هو ما يجب أن يخدم القرارات التعليمية الوطنية ذكرت لكم أمثلة من الولايات المتحدة الأمريكية، واليوم استعرض معكم مزيداً من الأمثلة، والتي أهدف أن أوضح منها إلى أي مدى تصدق ادعاءاتنا باللحاق بركب التقدم التعليمي مع أننا نجلب اليوم الكثير من التطبيقات التي تستخدمها نفس هذه النظم في تعليمها سواء كانت مادية كالوسائل التعليمية والتقنيات أو تجريدية كالبيداغوجيات (مداخل التدريس واستراتيجياته) وأساليب التقييم والمناهج وما إليها.
في بريطانيا تصل عناية وزارة التربية DfE إلى أن تقوم بأعمال بحثية مستمرة على مدار العام وبكم كبير يلتقي مع تنوع مجالات التربية وتعدد مداخلها وقضاياها، وهي لا تنفذ ذلك من خلال موظفيها (in house) وإنما تتعاقد مع المؤسسات البحثية ومراكز البحوث الراقية لتقوم بذلك، وهي إذ تمارس ذلك لا تهتم بشأن التعليم فقط بل تدعم البحث العلمي الأصيل وتشجعه من خلال منافساتها التعاقدية. وخلال آخر ثلاثة أشهر ماضية أنجزت 25 بحثا من أجل فهم مستمر للتعليم لديها، وتنوعت بين مجالات الطفولة والسلوك والقيادة وصحة الطلاب وكذلك الصحة النفسية والتعليم الخاص والتمويل وسوق العمل، والأخيرة كانت نسبتها 30 في المئة تقريبا (8 أبحاث)، وهذا يعكس إلى أي مدى يهتم النشاط البحثي الحكومي بعلاقة التعليم بالتنمية الاقتصادية. كما أنه من ضمن هذه الأبحاث ثلاث دراسات طولية لدفعات معينة من الطلاب cohorts ، ومن المعروف أن الدراسات الطولية لها أهمية كبيرة جدا في تعميق الفهم والثقة في النتائج خاصة أنها دراسات شاملة. ولو أحببتم أن تطلعوا على آخر موضوعات الأبحاث التي أعلنتها الشهر الماضي (مايو 2018) كأولوية بحثية ترغب أن تنفذها فاطلعوا على الرابط التالي https://goo.gl/n5LHsF
هناك مؤسسة حكومية بريطانية أخرى مهمة جدا ومشهورة هي أوفستيد Ofsted واسمها الكامل مكتب معايير التعليم وخدمات ومهارات الطلاب وهي تقوم على البحث التقييمي Evaluative Research ، حيث تقوم أسبوعيا بمئات العمليات التقييمية في المدارس التي تزورها بواسطة 1500 موظف لتقديم هذه الخدمة المهمة وهذه المؤسسة لا علاقة لها بوزارة التعليم بل هي مرتبطة بالبرلمان مباشرة، وهذا الاستقلال يمكّـن لها أن تكون عاملا فاعلا جدا في تجويد التعليم وتنص رؤيتها لخمس سنوات من 2017 حتى 2022 على ما يلي «نطمح إلى أن نكون قوة دافعة للتحسين من خلال أنشطة التفتيش والتنظيمات الواعية والمركزة والذكية.» وهي مثال متفرد وغير مسبوق على مستوى العالم إذ تجد جهة حكومية أخرى موازية لوزارة التعليم لأجل تقييم التعليم، وإذا اطلعت على تقارير هذا التقييم وجدتها كتبت بلغة بحثية رصينة مقنعة فليست مجرد جهة حكومية تفتش بأسلوب بوليسي مهدد، بل تقوم بأعمالها بأسلوب علمي محترم ولذلك فهي جهة لها احترام كبير لدى المدارس وأولياء الأمور، حيث يطلع ولي الأمر على تقارير مدرسة أولاده ليتعرف على مدى جودة المدرسة من وجهة نظر محايدة وعلمية، وأجزم أن كل ولي أمر لدينا (وفي العالم أجمع) يتمنى توافر مثل هذه الخدمة لديه.
بالإضافة إلى هذه المؤسسات الحكومية هناك مؤسسات غير حكومية وغير ربحية تقوم بالأعمال البحثية للارتقاء بجودة التعليم ومنها مثلا معهد أنظمة التعليم Education Policy Institute والذي يدرس الكثير من قضايا التعليم كالمحاسبية والتقييم والقيادة والمنهج والمؤهلات وما إليها، وذلك في إطار رؤيته بهدف تحسين الجودة التعليمية في بريطانيا، وهو يتلقى التمويل المالي من التبرعات ومن شركائه أمثال أوفستيد وجامعة ساسكس وكي بي أم جي الاستشاريون وغيرهم، كما أن له شراكات مع مؤسسات غير حكومية شبيهة برسالته في تحسين الجودة التعليمية في بريطانيا مثل (التدريس أولا) Teach First . هذه أمثلة لمؤسسات الحكومة لدعم القرار التعليمي في بريطانيا، دون أن نتطرق إلى جهود المؤسسات الأخرى مثل منظمة التعاون والتقدم الاقتصادي الأوروبية OECD وأمثالها، وللحديث بقية.