د.قيس بن محمد المبارك
الصورة الثانية: أن يكون النشوز من الزوجة.. مثل أنْ تُخلَّ الزوجةُ بحقوق الله، كترْك الصلاة أوترك صيام رمضان، أو ترك الغُسل من الجنابة، ومثل أنْ تُخلَّ بحقوق الزوج، فتخرج بدون إذنه، أوحين تشتم زوجها أو تضربه أو تهجره، فهذا الضرر نشوزٌ مِن الزوجة، يُبيح للزوج أمران:
أولهما: تطليقها.. فله أنْ يطلقها إنْ شاء، وله أن يطالبها بتعويضٍ بشيءٍ من المال، مقابل الضرر الذي حصل له، لأنها ظلمتْه بخروجها عن قانون الزوجية، لعموم قوله تعالى: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ).
ثانيهما: البقاء معها، رجاءً في صلاح حالها.. فإن كان راضياً بها، راغباً في البقاء معها، يرجو صلاح حالها، فله أنْ يسعَى في إصلاح حالها بنفسه، قال تعالى: (وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ) قال أبو عبدالله القرطبي (ت671هـ): (وولَّى الأزواجَ ذلك دون الأئمة، وجعله لهم، دون القضاة، ائتمانا من الله تعالى للأزواج على النساء).. قال أبو العبَّاس القرطبي (ت656هـ) في المفهم: (وفيه إباحةُ تأديبِ الرجل زوجته على وَجْهِ الرفق) وقال أبو العباس القسطلاني (ت: 923هـ): (وينبغي أن يتولى تأديبَها بنفسه، ولا يرفعها إلى القاضي ليؤدِّبها، لما فيه من المشقة والعار والتنفير للقلوب).
فيعالج زوجته الناشزَ، بنفس الوسائل الثلاث التي يُعالج بها القاضي الزوجَ الناشز، وبنفس التدرُّج، قال الحافظ أبوبكر ابن العربي: (من أحسن ما سمعت في تفسير هذه الآية قول سعيد بن جبير، قال: يَعِظُهَا، فإن هي قَبِلَتْ، وإلا هجرها، فإن هي قَبِلَتْ، وإلا ضربها، فإنْ هي قَبِلَتْ، وإلا بعث حَكَمًا مِن أهلها وحكما من أهله، فينظُران مِمَّن الضَّرر، وعند ذلك يكون الخلع).
فيبدأُ بِنُصحها وتخويفها من الله، ويُعرِّفها بحُسْن العشرة معه، والوفاء بحقِّه في الصُّحبة، فالنُّصحُ مشروعٌ لمن نشزتْ ولمن خِيف نشوزها، فإذا نفع معها النصحُ، واستقام حالُها فبها ونعمت، أما إذا لم يَستقم حالُها، واستمرَّتْ فيما هي عليه مِن إضرار بالزوج، وغلَبَ على ظنِّ الزوج أن الوعظ لن يكفي لزجْرها، جاز لَهُ أن ينتقل للوسيلة الثانية، وهي الهجر.
والهجر مشروعٌ لمن نشزتْ، وليس لمن خيف نشوزها، فلا يجوز للزوج هجرها بدعْوَى خَوْف نشوزها، فإذا نشزتْ جاز له هجْرُها، بترْك المبيت معها في الفراش، وهو معنى قوله تعالى: (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ) إذْ لا يجوز له أنْ يهجرها بالخروج من البيت، قال أبو عبدالله القرطبي: (فإنَّ الزوجَ إذا أعرض عن فراشها، فإنْ كانت مُحبَّةً للزوج، فذلك يَشقُّ عليها، فترجع للصلاح، وإن كانت مُبغضةً، فيَظهر النشوزُ منها، فيَتبيَّنُ أنَّ النُّشوزَ مِن قبلها).
ويُلاحَظ أنَّ الهجر لا يجوز أنْ يصل إلى حدِّ إلحاق الضرر بها، مثل أنْ يزيد على شهر، فهذا إضرارٌ بها. فإذا أدَّى هَجْرُه لَها إلى صلاح حالها فالحمد لله، أما إذا لم ينفع معها الهجر، وغلب على ظنِّ القاضي أنَّ استمرار الهجر لن ينفع معها، جاز للقاضي أنْ ينتقل للوسيلة الثالثة وهي الضرب على وجه الأدب، ضرباً خفيفاً، لأنه أمرٌ تستأهل عليه الأدب، فليس في الضرب الخفيف إساءةٌ لها، فيُؤدِّبُ الزوجُ زوجتَه كما يُؤدِّبُ القاضي الزوجَ، بخلاف الضرب المبرِّح فهو اعتداءٌ على الزوجة، لنهْي الله تعالى عن الضرب المبرِّح، بل إنَّ الزوج لو تيقَّنَ أنها لن تترك النشوز إلا بالضرب المبرِّح، لَمْ يَجُز له ضرْبُها.
غير أنَّ المصير للضرب مشروطٌ بأن يغلب على ظنِّ الزوج أنها ممن يمكن أن تتَّعظ بالضرب، فالمصير للضرب خلاف الأصل، فكان مشروطاً بأنْ يُعلم غالباً أنه سيؤدِّي إلى صلاح حالها.. وحيث إنَّ الزوجَ قد يدفعه الغضب، بسبب نشوزها وإساءتها إليه، إلى الانتصار لنفسه والتَّشفِّي منها، فيتجاوز الحدَّ في الأدب، فربَّما شتمها وضربها وأَسْمَعَها أفحش الكلام، ناسب أنْ يُنبَّه إلى أنَّ الذي أُبيح له هو ضرْبُ الأدب، قال أبوبكر بن العربي: (من غير تعدٍّ ولا حَيفٍ، ولا عملٍ بحُكْم الغضب، ولا في سبيل التَّشفِّي والانتقام).. فإذا غلب على ظنِّ زوجها أنَّ الضرب لن يُصلحَها، لَمْ يَجُزْ له أنْ يضربها، إذْ لا معنى للضرب عندئذ إلا الضرر المحض، فيجب على الزوج هنا أنْ يكتفي بالوعْظ والهجر، قال الشيخ خليل: (لأن المقصود صلاح الحال، والوسيلة عند ظن عدم مقص دها لا تُشرع) ثم يُصار إلى التحكيم.
ما هو الضرب المباح
وقد نبه الفقهاءُ على أن الضرب المقصود هو ضربُ الأدب، أي ضرب على سبيل التأديب، بيده أو بمنديل ملفوف، ونحو ذلك، فشرْطُه أن يكون خفيفاً غير مبرِّح، أي لا يظهر له أثرٌ على البدن، فحين سُئل ابن عباس -رضي الله عنه-: ما الضرب غير المبرِّح؟ قال: (بالسِّواك ونحوه) قال الفخر الرازي: (ومنهم من قال: ينبغي أن يكون الضرب بمنديل ملفوف أو بيده، ولا يضربها بالسياط ولا بالعصا، وبالجملة فالتخفيف مراعَى في هذا الباب على أبلغ الوجوه).
ويجب أنْ يجتنب الوجه، لقوله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أبوداوود: (إذا ضرب أحدكم، فلْيتَّقِ الوجه) قال القاضي عياض: (إكراماً له، ولأن فيه محاسن الإنسان وأعضائه الرئيسية، ولأن التشويه والآثار به أقبحُ منها فى غيره وأَشنع)
ولا يجوز تكرار الضرب، وإنْ كان خفيفاً، لأنه يصير بمنزلة الضرب المبرِّح، قال ابن رشد في البيان والتحصيل: (وأما الضرب المفرط فهو من الإساءة، وكذلك إن ضربها مراراً، وإن لم يكن ضرباً مفرطا).
ونبَّهوا كذلك على أنَّ الضرب خلافُ الأولى، فقد روى الإمام مالكٌ في الموطأ أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- استؤذن في ضرب النساء، فقال فيما رواه البيهقي: (اضربوا، ولن يضربَ خياركم) قال الحافظ أبوبكر بن العربي: (فأباحَ ونَدَبَ إلى التَّرْك، وإنَّ في الهَجْر لَغاية الأدب) وقالت أمُّنا عائشةُ رضي الله عنها: (ما ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئاً قط بيده، ولا امرأة، ولا خادماً).. ولهذا قال عطاء: (لا يضربها، وإن أمرها ونهاها فلم تُطِعْه، ولكنْ يَغضبُ عليها) قال ابن العربي: (هذا من فقه عطاء، فإنه من فهمه بالشريعة ووقوفه على مظان الاجتهاد علم أن الأمر بالضرب ههنا أمر إباحة، ووقف على الكراهية من طريق أخرى).. فالوقوف عند وسيلة الهَجْرِ، بعدم التأديب بالضرب هو الأفضل على كل حال، قال ابن العربي: (مِن النساء، بل ومِن الرجال مَن لا يُقيمه إلا الأدب، وإنَّ في الهَجْرِ لَغَايَةَ الأَدب).
وقد نبَّه شيخ الإسلام محمد الطاهر بن عاشور -رحمه الله- إلى أنَّ المصلحة قد تدعوا إلى مَنْع الأزواج مِن تأديب نسائهم بالضرب، فقال: (يجوز لولاة الأمور إذا علموا أن الأزواج لا يحسنون وضع العقوبات الشرعية مواضعها، ولا الوقوف عند حدودها أن يضربوا على أيديهم استعمال هذه العقوبة، ويعلنوا لهم أن من ضرب امرأته عوقب، كيلا يتفاقم أمر الإضرار بين الأزواج، لا سيما عند ضعف الوازع).