عبدالعزيز السماري
تتداخل مبادئ الحداثة وقيمها في العقل العربي لدرجة أن تفقد معانيها الحقيقية عند التطبيق، وربما يكون السبب الأول لذلك هو التعامل مع الحداثة وأدواتها ومصطلحاتها كنظريات، ومحاولة تطبيقها من خلال البحث عن معانٍ أخرى بين السطور، بينما هي في منشئها كانت وليدة أحداث وتجارب ثقافية وسياسية طويلة الأمد..
ولهذا السبب تحولت في التجربة العربية إلى أشبه بالعقائد المبهمة، وقد ظهرت بعض تطبيقاتها في صورة دموية في التاريخ العربي الحديث، وقد يكون السبب له علاقة بهيمنة الشمولية كمنهج غريزي وفطري في العقل الإنساني، فالإنسان منذ نعومة أظفاره يريد أن يفرض اختياراته وآرائه على الآخرين، وبالتالي تتحول الفكرة النظرية إلى شمولية، ولو كانت مكوناتها تقوم على التعددية والديموقراطية..
كان جورج أورويل أول من تنبه في روايته 1984 التي كتبها عام 1949م بشكل دقيق إلى أن القيم البشرية مجرد معانٍ متغيرة وقابلة للتحريف بسبب سيطرة الغرائز السلطوية والشمولية على العقول، ليكونوا مجرد أرقام هامشية في الحياة بلا مشاعر ولا عواطف، وليس لديهم طموحات أو آمال، حيث يعملون كالآلات خوفًا من الأخ الأكبر، ولينالوا رضاه لأنه يراقبهم على مدار الساعة.
لقد تخيل أورويل خصلتين رئيستين للمجتمعات الشمولية: أحدهما الكذب، والآخر هو ما سماه الفصام، وقد كتب «إن الكذب المنظم الذي تمارسه الدول الشمولية ليس كما - يزعم في بعض الأحيان - مجرد وسيلة مؤقتة من نفس طبيعة الخداع العسكري، بل إنه شيء لا يتجزأ من الشمولية»..
وهو أمر لا يزال مستمرًا حتى لو لم تعد معسكرات الاعتقال وقوات الشرطة السرية ضرورية، فقد استلزم الكذب باستمرار إعادة كتابة الماضي لاستيعاب الحاضر، وهذا النوع من الأشياء يحدث في كل مكان، كما كتب، «من الواضح أنه أكثر ميلاً إلى أن يؤدي إلى تزوير صريح في مجتمعات حيث لا يسمح إلا برأي واحد في أي لحظة، ولهذا الشمولية تتطلب في الواقع التغيير المستمر للماضي»..
الشمولية ليست حالة ثقافية أو فكرية، ولكنها الاستسلام للغرائز الفطرية في الإنسان، ثم التسليم للآخرين الأضعف في أن يقدموا قرابينهم من أجل إثبات إيمانهم بالفكرة، وهو ما يجعل من القطار - إن صح التعبير - يسير في اتجاه الطرق الأضيق، فالأضيق، وعادة يقفز كثير منهم قبل الوصول إلى نهاية الطريق، وهذا ما حدث في مختلف الدول التي سيطرت عليها غرائز الشمولية والرأي الواحد.
كان أورويل على حق، فالنظام الشمولي يعتمد على الأكاذيب لأنها أكاذيب، كما أنه يجب - في الحقيقة - أن يصدقها الناس، بل يتقبلونها كأكاذيب، وكالواقع الوحيد المتاح، وكما تنبأ أورويل، فإن النظام الشمولي يدمر، بمرور الوقت، المفهوم ذاته، وأي إمكانية وجود للحقيقة، والنتيجة في نهاية المطاف أن كل شيء يمكن تصوره، لأن لا شيء حقيقيًا في المجتمع الشمولي.
كما أن عقائدها ليست فقط غير قابلة للطعن، ولكن أيضًا غير مستقرة، ويجب قبولها وتصديقها في وقتها، ومن ناحية أخرى، هي أيضاً عرضة للتغير في أي لحظة، فقد لاحظ أورويل في التجربة السوفيتية اختفاء تاريخ البلاشفة البارزين نتيجة التعديلات المستمرة عن الروايات الرسمية للثورة..
كان عدم الاستقرار في الواقع غرضًا أو هدفًا من أجل عمليات التطهير: فقد كانت سلطة النظام لا تعتمد على القضاء على رجال بعينهم في لحظات معينة، بل على القدرة على القضاء على أي رجل في أي لحظة. كان البقاء على قيد الحياة يعتمد على حساسية المرء للقصص المتغيرة باستمرار وقدرة الشخص على التعبير عن نفسه من خلالها.
في النظام الشمولي الغريزي يسيطر الشك على أجهزة الدولة، وتهيمن الجاسوسية والتنصت على الناس في المجتمع، وهو ما يؤدي إلى إنهيار القيم الأساسية، فالخوف داء معدٍ، ويؤدي في نهاية الأمر إلى انتشار الخيانة، وبالتالي هيمنة الكذب من أجل إرضاء غول الغريزة الشمولية.
مهما حاولنا إخفاء ملامحها في تاريخنا العربي الحديث في دول العسكرتاريا، لكنها كانت مثالاً صارخًا على داء الشمولية في سماته الأولية، فقد كان الحاكم قبل نهايته أشبه بقائد العربة التي يجرها حصان في منحدر عالٍ، لكنها محملة بالأثقال التي تراكمت عبر مسلسل طويل من الأكاذيب، وفي لحظة ما قبل السقوط يستفيق قائد العربة، ويحاول إنقاذها من السقوط، لكنه في الوقت نفسه يدرك أنه فقد زمام العربة، فإن توقف قتلته الأثقال، وإن استمر في المنحدر كانت نهايته في الهاوية..
ولو قدر لي أن اختار سبباً لانتشار تطبيقات غول الشمولية اللعين، لكان تقرب السلطة الشديد من العقول، ولو اختارت أن تكون سلطة أعلى، ومرجعاً لمختلف السلطات، وبالتالي منح المجتمعات مجالاً للتعبير بصوت مسموع، وحيزاً للتنفس من خلال سقف أعلى من كل السقوف، لربما خفت أثقال العربة، واختار الجميع أن يقفوا مع قائدها في المسافات الأخيرة قبل السقوط..