د. محمد عبدالله الخازم
عندما أنهيت مرحلة الدراسة ومع بدء مرحلة التدريب السريري المعروفة بالامتياز خطرت لي فكرة قضاء جزء من التدريب خارج المملكة، وبحكم ما سمعته عن البلاد البعيدة، كندا، كانت خياري ولكن كيف أتواصل معهم؟ في زمن لا يوجد فيه إنترنت ولا إيميل كان بريد الرسائل وفي أحسن الحالات الفاكس يقرِّب المسافات. حصلت على عناوين المستشفيات عن طريق الجمعية المتخصصة في كندا. بعدها اخترت 50 مستشفىً ومركزاً وأرسلت لها الرسالة الموحَّدة، فجاءت بعض الردود تستفسر، بعضها تسأل عن رخصة العمل وبعضها تسأل عن برنامجنا المحلي والوحيد في المملكة حينها. استقر المقام بالتركيز على مركز واحد، كانت إجابته معقولة، لم يكن في مدينة جاذبة لكنني على كل حال لا أعرف تفاصيل البلد الذي أتوجه له والفرق بين مدنه، مركز وسكانا في مدينة ريجانيا الذي قبل معاملتي كطلاب جامعة ساسكتون على أن أتكفل بمعيشتي وسفري والحصول على تأمين ضد الأخطاء الطبية. طلب مني نسخة من المنهج الدراسي فهرعت إلى داعمي في تلك الخطوة الدكتور كمال الدين الألوسي، النيجيري الجنسية، رحمه الله وجزاه الأجر والمثوبة على ما قدمه لي من دعم. لم يكن هناك منهج مكتوب للقسم، سوى أسماء مقررات على وريقات صفراء لا تفي بالغرض، ولكن الدكتور كمال اجتهد وكتب لها أوصافاً ووضعها على ورق الكلية، وكل ذلك يتم في صمت وكأننا نخشى أن يأتي من يفسد علينا الخطة!
من حسن الحظ، كلّف الدكتور برئاسة القسم - كان مسموحاً لغير السعودي تولي رئاسة القسم- فكنت منتشياً أكثر بدعمه. جاء الرد بقبولي مع عنوان مكتب التأمين وتعليمات حول سكن جامعة ريجانيا. المشكلة التي لم نتوقّعها هي معارضة إدارة الكلية للفكرة، بحجة أنه لم يسبق تطبيقها، وهناك إشكالية في اعتماد التدريب و صرف الراتب وغيرها من الحجج، لكن أستاذي النيجيري استطاع بحيلة أو تحايل ذكي متفق عليها بيننا تجاوز تعنت مسؤول الكلية حينها.
حان وقت السفر قبل عيد الحج بأيام، وصلت المدينة البعيدة بعد محطات سفر عديدة واستقبلتني بالمطار الصغير مسؤولة التدريب، رتبت لي سكناً ببيت الشباب ريثما ترتب الأمور في الجامعة. سكن بيت الشباب عبارة عن غرفة منفردة أو مشتركة مع دورات مياه مشتركة، وفي الجامعة كأي سكن طلابي كل مجموعة طلاب يحتلون ما يشبه الشقة يتشاركون في المطبخ وصالة المعيشة ودورات المياه ووفق نظام مرتب يتحمّل كل منهم مسؤوليته في التنظيف والحفاظ على ترتيب المكان. لم يكن هناك سعودي بالمدينة وبعض الزملاء العرب اختلفت معهم بعد وصولي بيومين، لأمور سياسية، حيث كانت تلك الرحلة عقب حرب الخليج والنفوس مشحونة. السكن الجامعي ومكان التدريب أتاح لي معارف وصداقات أخرى. اكتشفت تواضع ما تعلّمناه في كليتنا، وربما كنت محظوظاً بحصولي على تدريب سبق تلك الرحلة في مستشفيات متميزة كالتخصصي.
كانت مغامرة قصيرة ليست سهلة، طفت فيها كندا وفتحت لي آفاقاً ثقافية ومعرفية ومهنية مهمة. حاولت دعم مثل هذه المهمة لطلاب الجامعات السعودية ولكن يبدو أن عقلية المسؤول الذي قاوم رحلتي تلك قبل ربع قرن ما زالت موجودة بجامعاتنا.