د.قيس بن محمد المبارك
الزواج ليس عقداً ينتهي باكتمال الصفقة، كما هو الشأن في سائر العقود، وإنما الزواجُ توافقٌ بين طرفين، يتطلَّع كلُّ واحد منهما من الآخر، إلى استدامة الصحبة والودِّ والأُلْفة وحُسْن العشرة، فيسعى كلٌّ منهما لفعل كلِّ ما من شأنه إدامة الصحبة، ليسكن بعضهم إلى بعض من غير قلقٍ ولا تخوُّفٍ من انتهاء الأَمَد، ومن غير ترقُّبٍ لما يَعقب انفصالِهما، فهي رابطةٌ تتنافَى مع التأقيت، فتجري على سبيل الدوام والاستمرار، فالتَّأبيدُ أصلٌ في رابطة الزوجية، فقِوامُها رغبةُ الزوجين في اقترانٍ دائم، لتحقيق مقاصد هذه الرابطة مثل حُسْن الصُّحبة، ومثل التناسل، وهي رابطةٌ سمِّيَتْ عقداً لأنها أشبهت صورةَ العقود من حيث وجود الإيجاب والقبول، غير أنها تتنافى مع العقود من حيث أنها مبنيَّة على المكارمة والمسامحة، بخلاف عقود المعاملات التي مبناها المغالبة والمكايسة، ولهذا كان الزواج مقصوداً شريفاً وميثاقاً غليظاً، كما قال تعالى: (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) وخلال هذه الصحبة يؤدِّي كلُّ واحد من الزوجين الحقوق الواجبة عليه لصاحبه، لأنَّ هذا الميثاق يتضمنُ حقوقاً لكلٍّ منهما على صاحبه، وواجبات عليه لصاحبه، فأداء الحقوق ضمانٌ لحصول الأُلْفة وحُسْن العشرة بينهما، كما أنَّ الإخلال بها يُضعِف المودَّة.
فإن حصل شيءٌ من التقصير من أحدهما عُدَّ هذا التقصيرُ نشوزاً، فالنشوز صدورُ فعْلٍ لا يجوز شرعاً، إما بتقصيرٍ في حقٍّ من حقوق الله تعالى، أو بالتقصير في حقٍّ من الحقوق الزوجية، فحقيقة النشوز الخروج عن قانون الزوجية.
والنشوز يثبت بالشهادة من عدلين فأكثر بمعاينتهم إياه لمجاورتهم للزوجين أو لقرابتهم منهما ونحو ذلك، ويثبت كذلك بشهادة السماع، مثل أن يستفيض الأمر على ألسنة الجيران من النساء والخدم وغيرهما بأن فلاناً يضر بزوجة فلانة بضرب أو شتم في غير حق.
وللنشوز صورتان:
الصورة الأولى: أن يكون النشوز من الزوج.
مثل أنْ يُخلَّ بحقوق الله، كترْك الصلاة أو ترك صيام رمضان، أو ترك الغسل من الجنابة، ومثل أنْ يُخلَّ بحقوق الزوجة، فيمنعها من التجارة بمالها، أوكان يضربها، أويَترك الكلام معها، أويهجرها، أويشتمها، أويشتم أبيها، فهذا الضرر نشوزٌ مِن الزوج، فهذا نشوز يُبيح للزوجة أمران:
أولهما: طلب الطلاق منه وتأديبه.
فلها، إنْ شاءت، أنْ ترفع أمرها إلى القضاء، وتُثبتْ أنَّ زوجَها تعدَّى عليها، وألْحَق بها ضرراً، بضربها أو سبِّها، أو غير ذلك من صور التعدي، فيأمره القاضي أولا بالطلاق، فإن امتنعَ الزوجُ عن الطلاق، صار الطلاقُ حقَّاً للقاضي، فيكون للقاضي إنْ شاءَ أنْ يطلقها بنفسه، وله إنْ شاءَ أنْ يأمرها بتطليقه، طلقة واحدة، وتكون بائنة بينونة صغرى، طلاقاً بلا مالٍ يأخذه منها، لأنه ظلمها، بل إنها إذا كانت قد طلبتْ منه الطلاق، ودفعتْ له مالاً، مقابل أنْ يُطلِّقها، فخشيَ أنْ ترفع عليه دعوى بالضرر، وتستردَّ المال، فأسقطتْ حقَّها في المطالبة بالمال، قائلةً: إنْ كانت لي بيِّنةٌ بالضرر فقد أسقطْتُها، وأشْهَدَتْ على ذلك، لَمْ يسقط حقَّها، فلها أنْ ترفع عليه دعوى وتسترد منه المال الذي دفعتْه له.. أما إنْ عجزتْ عن إثبات دعواها، فعلى القاضى أنْ يصير إلى التحكيم.
ولها طلب تأديبه والاقتصاص منه، فيؤدبه القاضي على ظلمه لها، فإن كان الضرر الحاصل منه يوجب القصاص، كضربه لها، وطلبت القصاص، فيقتصُّ لها القاضي منه.
ثانيهما: البقاء معه، رجاءً في صلاح حاله.. فإن كانت راضيةً به، راغبةً في البقاء معه، ترجو صلاح حاله، فلها أنْ تسعَى في إصلاح حاله برفع أمْره للقاضي، فإذا ثبت عند القاضي أنه ناشزٌ، فعليه أنْ يؤدِّبه بما يراه، ليَصلح حالُه، قال أبو عبدالله الخَرشي (ت 1101 هـ): (ويتولَّى الحاكمُ زَجْرَه باجتهاده، كما كان يتولى الزوجُ زجرَها حين كان الضرر منها) فيتولَّى القاضي إصلاحه بثلاثة وسائل، وهي الوعظ ثم الهجر ثم الضرب.
فيبدأ القاضي بنُصح الزوج وتخويفه من الله، فالنُّصحُ مشروعٌ لمن نشز، وكذلك لمن خِيف نشوزه، فإذا نفع معه النُّصحُ واستقام حالُه فبها ونعمت، أما إذا لم يَستقم حالُه، واستمرَّ فيما هو عليه مِن إضرار بالزوجة، وغلَبَ على ظنِّ القاضي أن الوعظ لن يكفي لزجْره، جاز للقاضي أن ينتقل للوسيلة الثانية، وهي الهجر.
فعلى القاضي أنْ يأْمُرَ الزوجةَ أنْ تَهجرَ زوجها، بتَرْك المبيت معه، إلى أنْ ينكفَّ عن نشوزه، ولا ينبغي أنْ يزيد هَجْرُها له عن شهر.. قال أبو عبدالله القرطبي: (وهذا الهجر غايته عند العلماء شهر، كما فعل النبي صلى وسلم، حين أسرَّ إلى حفصة، فأفْشَتْه إلى عائشة).
فإذا أدَّى هَجْرُها لَهُ إلى صلاح حاله فالحمد لله، أما إذا لم ينفع معه الهجر، وغلب على ظنِّ القاضي أنَّ استمرار الهجر لن ينفع معه، جاز للقاضي أنْ ينتقل للوسيلة الثالثة وهي الضرب. غير أنَّ المصير للضرب مشروطٌ بأن يغلب على ظنِّ القاضي أن هذا الزوج ممن يمكن أن يتَّعظ بالضرب، فالمصير للضرب خلاف الأصل، فكان مشروطاً بأنْ يُعلم غالباً أنه سيؤدِّي إلى صلاح حاله، فإذا غلب على ظنِّ القاضي أنَّ الضرب لن يُصلحَه، لَمْ يَجُزْ للقاضي أنْ يضربه، إذْ لا معنى للضرب عندئذ إلا الضرر المحض، فيجب على القاضي هنا أنْ يكتفي بالوعْظ والهجر، ثم يُصار إلى التحكيم.
... يتبع،،،