د.فوزية أبو خالد
-5-
هذا، ومع أنني عدت بعد انقطاع آخر عن الكتابة، وإن كان قصيراً، للكتابة بزخم أسبوعي في مجلة اليمامة؛ فكتبت سلسلة من مقالات الرأي بعنوان (سؤال الهوية والانتماء)، إلا أنهم ما لبثوا أن ضاقوا بي، وضقت بهم. وقد كان ذلك لفترة في التسعينيات الميلادية إلى أن انتهى بي الأمر بعد هذه المسيرة من محاولة الوقوف ومن الكبوات ومن خبرات الصمت ودربة الكتابة في حقول الألغام للالتزام بكتابة مقال رأي أسبوعياً بصحيفة الجزيرة منذ العام 1995م.
ومن بداية العقد الأول للألفية الميلادية الثالثة عاد لـ(الجزيرة) رئيس تحريرها الأستاذ خالد المالك؛ ليواجه بها وفيها ونواجه معه ككتاب مرحلة جديدة من التحولات والتجاذبات. وقد اكتشفت أن أ. خالد لا يمكن أن ينشر لي مقالاً دون أن يقرؤه بنفسه ولو كان في إجازة. وبقدر ما كان يزعجني ذلك فقد وجدت مع الوقت أن ذلك ربما هو مما حافظ على مسيرتي بـ(الجزيرة) لما يقارب اليوم خمسة وعشرين عاماً، وربما هو أيضاً مما علمني النزال بدون تنازل قدر الإمكان. ولولا خشيتي من تشطيبات رئيس التحرير لقلت عن تجربة الكتابة برئاسة أبي بشار للتحرير الكثير؛ وذلك بما تمثله التجربة من العمل مع شخصية من صناع الصحافة السعودية. وينطبق ذلك على موقعه في صدارة الصحافة السعودية، سواء قبل أو بعد عودته لـ(الجزيرة) على إثر فترة الصمت والإبعاد له من رئاسة تحريرها في عز أوجه وأوجها نهاية السبعينيات الميلادية. كما ينطبق على الكثير من واقع التجربة بمدها وجزرها من بداية الألفية الثالثة إلى الآن، وبما واجهته المنطقة وانعكس على الصحافة وكتابها وصحفييها من تحديات. ولكن أترك ذلك ليوم آخر قد يأتي للإفصاح لتحليل أعمق وأوضح. كما أؤجل لوقت قريب جزءًا مهمًّا من تجربتي في الكتابة بجريدة (الجزيرة)، وهي الفترة التي كان يتولى فيها رئاسة التحرير بالنيابة الأستاذ عبدالعزيز المنصور، وهي فترة خصبة، وذات نفس جدلي؛ يستحق التسجيل.
-6-
غير أنه يبقى هناك فضل في عنقي، لا بد من ذكره لاثنين من فرسان جريدة (الجزيرة). فهناك الكاتب المهني المحترف الأستاذ راشد الراشد الذي عاصر التجربة الفذة للصحافة اللبنانية، وكان قريباً من تجربة غسان تويني الصحفية بجريدة النهار، وقد كان أول من استقطب قلمي لكتابة الرأي بجريدة (الجزيرة) بعد فترة طويلة من سبات الصحف وتحفظها على بعض الأسماء؛ فطيب الله ثرى أبي غسان.
وكانت هناك بجريدة (الجزيرة) تجربتي للكتابة في العهد القصير لرئيس تحريرها الأستاذ محمد أبا حسين الذي كان نصيراً بجدارة لكل قلم نظيف، وكان أيضاً مرحباً ومشجعاً لكل من حملت على عاتقها مسؤولية الكلمة. ولن أنسى أن أبوح بما لم يكن سراً يوم كان أ. محمد أبا حسين من أوائل من وقف معي لاستكمال تحصيلي العلمي لدرجة الدكتوراه بعد إبعاد عن العمل. وكان ذلك بأن أعطاني قرضاً لتغطية تكاليفي الدراسية المبدئية بصرف مكافأتي في الكتابة الأسبوعية مقدماً لعام كامل. ولهذا كان أول من شكرته -رحمه الله- في وقفة الوفاء على الصفحة الأولى من أطروحة الدكتوراه. وإن كان الشكر لا يفي موقفه كرئيس تحرير معي ككاتبة وكطالبة. وكم يحز في نفسي أنه ذهب لرحمة ربه دون أن يعرف كيف وكم التقدير الذي أحمله في نفسي ما حييت لموقفه الشريف غير التقليدي في القدرة على إعادة كتابة الأجنحة بقلم الأمل.
-7-
وتبقى من تجاربي في كتابة الرأي بالصحافة المحلية تجربة كتابتي من العام 1996 للعام 2004 مقالاً شبه شهري، وإن بتقطع، بصحيفة الحياة ذات الهوية الصحفية الثلاثية, عربية مهجرية، لبنانية وسعودية. وفيها بحكم ذلك التماس الثلاثي تماس مع عدد من الشخصيات المؤثرة المماثلة لموقع رئيس التحرير في جدل السقف والأجنحة، وهم أ. وليد النويهض، وأ. جوزيف سماحة/ رحمه الله، وأ. علي بدرخان، والأستاذ داود الشريان. وهي تجربة تستحق فعلاً التسجيل، وأتركها أيضاً لوقت آخر إن سمحت مشاغل العمل، وإن أسعفني العمر. هذا بالإضافة لتجربتي بمبادرة الشاعر علي الدميني وباقة من الزملاء، منهم الروائي عبدالعزيز المشري والصحفي والأديب شاكر الشيخ يرحمهما الله، والأستاذ القاص محمد علوان، ود. معجب الزهراني، والشاعر عبدالله الخشرمي، ود. سعد البازعي، ود. عبدالله الغذامي، ود. سعاد المانع، ود. فوزية البكر، والأستاذة فوزية العيوني في تأسيس مجلة ثقافية مستقلة هي مجلة (النص الجديد). وذلك نوع آخر من تجارب العمل والكتابة كينابيع صغيرة، تمد رأسها من كثبان الرمال.
-8-
والسؤال البديهي لمن يعود لمطلع المقال هو: ما الذي استجرح التجربة؟ وما الذي استدعى هذا الكم من مكر الذاكرة الذي أفلت بكرتها عن بكرة أبيها بذكريات ومواقف وشد وجذب ما يزيد على ربع قرن بقرن؟ ومع أنني لا أعرف الإجابة على وجه التحديد إلا أنه بإمكاني أن أحاول..........
منذ مطلع شهر رمضان الفضيل صار يعتريني أحساس بالألم..
كلما اقترب وقت الكتابة فأصابعي معقوفة مثل علامات استفهام..
وعقلي يستعصي، وهذا من حقه, أن أقوم بالكتابة عن غير ما يعتريه من أسئلة.
أما صدري فيضيق على «سعة الصدر» المفترض الانشغال بها من سيل تلك الفبركة المرتبكة على الشاشات بشكلها الاستهلاكي المتهتك، فيبدو أنه لم يبقَ للأفواه بعد انشغالها لما فوق الحلق بطعام الإفطار إلا أن تلوك الكلام عن هذا المسلسل أو ذاك، وكأن تلك المسلسلات سواء ما يسمى العاصوف أو الفلتر المسؤولة عن «غسل» صورتنا الاجتماعية كما يجري عادة غسل الكلى من السم أو الأيدي الملطخة من الدسم؛ فتطلع بيضاء تسر الناظرين بعين الرضا.
منذ مطلع هذا الشهر وأنا أذهب للنوم لا لأنام بل لأعد النجوم حتى امتلأت أصابعي بالأثاليل؛ فبمجرد أن أغمض عيوني تخرج الكوابيس والخفافيش من مكان عبثاً أحاول أن أكتشف كمائنه؛ لتبدأ بتمزيق بشرتي بأظلاف كتلك التي كانت تعبث بكبد ماكبث.
من قال إن الكتابة أقل وحشة ووحشية من الامتحان؟ بلى إنها الامتحان بذاته؛ فهي امتحان للياقة العقل، وامتحان للياقة اليد كما قال جابريل ماركيز، وامتحان للقدرة على السهر وتقرح الجفون، وامتحان لمدى يقظة الضمير أو تظاهره بالصحو أو نومه العميق أو القلق دون جدوى مع العجز عن تحويل ذلك القلق إلى جملة مفيدة يقبلها الضمير ويمررها الرقيب.