د. محمد بن فهد بن عبدالعزيز الفريح
ما أحلى أن يجلس المرء إلى من يفيده، ويا للذة يجدها القلب حين يخرج من مجلس قد أضاف إلى علمه أو خُلقه أو عقله شيئاً كان غافلاً عنه. كنتُ في مجلس شيخنا عبد المحسن العباد قبل خمس سنين تقريباً فقال: إن أحد مُدرسيَّ في المرحلة الابتدائية لما انتهيت من الدرس في الحرم جاء وسلَّم عليَّ! فلما عرفته قلت لمن حضر الدرس ممن حولي هذا أستاذي قد درسني في المرحلة الابتدائية!! فتعجب الطلبة وحق لهم ذلك! فقلت للشيخ: وهل هذا الأستاذ الذي درَّسكم حي الآن؟ قال نعم: ببريدة، وبالزلفي هنا أستاذ لي آخر!!
فتطلع القلب لرؤيتهما، وقصدتُ بريدة لزيارة شيخ شيخي وصليت معه العصر وسلمتُ عليه وقبَّلت جبينه وبدأت العلاقة معه.
وبعد مدة دعاني الشيخ عبدالمحسن لمناسبة أقامها تكريماً لأستاذيه، وحضرت المناسبة وكانت مناسبة وفاء كتبتُ فيها مقالاً عنوانه (الشيخ عبدالمحسن العباد ومعلماه وليلة وفاء).
فأستاذ الشيخ عبدالمحسن هو الشيخ محمد بن عثمان البشر، وهو من نوادر الرجال شهامة وكرماً وبذلاً ووفاءً، وقد اتصل بي ليدعوني لمناسبة عنده وما أكثر مناسبات الخير التي يقيمها، فلما استقرت قدمي في مجلسه قلَّبتُ النظر في الوجوه الحاضرة فذكرتُ مجلس سماحة شيخنا عبد العزيز بن باز -رحمه الله- في اختلاف مستويات الحاضرين وتعدد الدول التي جاؤوا منها من المشرق والمغرب وكثير منهم من روسيا؛ ليشاركوا أبا عثمان مناسبته، ومن لطفه أن أهدى إليَّ ما ألفه من ذكريات ومقتطفات سماها «حب الحصيد»، وسبب التسمية كما أفصح عنه (أن الحب هو ناتج الزرع، وثمرة الكد، وخلاصة الجهد), وقد أظهر لي سروره بما كتبته عن أخيه الشيخ القاضي عبدالله بن عثمان البشر في مقال نشر في صحيفة الجزيرة، وقد سألته عن جده المؤرخ صاحب عنوان المجد هل ذهب إلى العراق -الزبير-؟ فقال: نعم أيام شبابه، فقلت: هل هناك وثائق تدل على ذلك؟ قال: لا، هذا ما سمعناه من عائلتنا ممن سبقنا. وكان ذلك في منزله 3-3-1438هـ (ولغيره في ذهاب المؤرخ إلى الزبير وجهة نظر في ذلك).
ألا رحم الله الشيخ الكريم الوجيه محمد بن عثمان بن أحمد بن عثمان (مؤرخ نجد) البشر شيخ الجمعيات الخيرية من تحفيظ قرآن وبِرٍّ وغيرها, والذي توفي في 24-7-1439هـ عن عمر 87 سنة, وقد وُلد ببريدة في شهر ذي الحجة سنة 135هـ، وكان من طلاب الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله، وقد كتب الشيخ محمد عن بعض محطات حياته في كتابه «حب الحصيد» يمكن إفرادها لوحدها، بل واقترح أن يقام باستخراج التأريخ والتراجم الواردة في كتابه فتكون في مؤلف مستقل.
كنتُ في الحدود الشمالية لإلقاء محاضرة وأُخبرتُ من قبل المنظمين أن هناك موعداً مع أمير المنطقة للسلام عليه بعد أداء المناشط العلمية، جاء الموعد فذهبتُ مع الإخوة، وكنت حريصاً لزيارة هذا الأمير المحبوب الذي يعد أكبر أمير منطقة، وأقدم أمراء المناطق، إذ إن الملك الصالح الإمام عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -رحمه الله رحمة واسعة وغفر له- هو من عينه أميراً على منطقة القصيم عام 1366هـ وكان عمره 18 عاماً ثم بعد عشر سنوات عُيِّن أميراً للحدود الشمالية عام 1376هـ واستمر في إمارتها إلى أن توفي -رحمه الله- في 17-9-1436هـ عن عمر ناهز الثامنة والثمانين، إذ ولد في سنة 1348هـ. دخلنا عليه فرحَّب بنا غاية الترحيب، وكان مجلسه مجلساً لطيفاً، ترى الأبوة في كلماته، واللطف في تعامله، والإكرام لجليسه، قال لنا: ترى أنا مثلكم طلبت العلم وحضرت دروس الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله- مدة من الزمن (نسيتُ أقال ثلاث سنوات أو ست سنوات)، وقد استفدت منه، وكنت آخذ بمشورته، فقد كنت لم أبلغ العشرين من عمري حين توليت إمارة القصيم، وذكر أن سماحة الشيخ عبدالله بن حميد أوصاه وصية, قال: إلى الآن أعمل بها، وهي أني لا أتدخل في عمل القاضي أبداً.
ثم جاء ذكر الأمير نايف -رحمه الله- فتوجَّد عليه، وقال: أنا كنت معه قبل وفاته بيوم أو يومين ففجعني الخبر جداً، فالأمير نايف له ثقل كبير، وكان يحمل أعباءً كثيرة، وعنده العقل والتأني وبعد النظر، وكان رحمه الله يطلق عليَّ «مطوع آل سعود» أو»شيخ آل سعود». لم يطل المجلس لقرب صلاة الظهر فودعنا الأمير المتواضع عبدالله بن عبدالعزيز بن مساعد بن جلوي بن تركي بن عبدالله «مؤسس الدولة السعودية الثانية» رحمهم الله جميعاً وغفر لهم.
سمعتُ قصة أن رجلاً كان يغسل الموتى ويحفر قبورهم ويشارك في دفنهم، وأنه في يوم من الأيام قصد المقبرة ليكمل حفر قبر، فلما أكمله كان قد لحقه التعب من الشمس والعمل فأراد أن يسترخي في هذا القبر اتقاءً للشمس وتبرُداً بالتربة، فلما استقر فيه فإذا هو يسمع داخلاً للمقبرة، فلما اقترب من القبور قال الداخل: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، فرد عليه صاحبنا بصوت عالٍ: وعليكم السلام.. إلى هنا اتفقت الروايات، ثم اختلفت فمن قائل: أن الداخل سقط مغشياً عليه من الخوف، ومن قائل ولى هارباً...
وقد قال لي محدثي: هذا الرجل المحسن في تغسل الموتى وحفر القبور ساكن في شقراء.
ذهبت مرات عديدة إلى الوشم ولم أحرص كل الحرص لأتحقق من القصة، وفي مرة سألتُ عن الرجل، فقالوا: نعم هو مؤذن مسجد منذ أكثر من ستين سنة، ولا يزال فاشتقت لرؤية هذا الشيخ الذي مرت عقود وهو ينادي بالفلاح، فذهبت إلى مسجده لأداء صلاة المغرب فكان في المسجد أربعة رجال المؤذن أحدهم، وكان عن يمينه فرجة فأشار إليَّ أن تعال سُدها, ففعلت ثم سلمت عليه، وبعد الصلاة سلمت عليه أخرى وأخبرته باسمي وقلت له: إني سمعت قصة عنك، فقال بلفظه مع تحريك يده: وش هي؟ فذكرت له القصة الماضية، فضحك، وقال: نعم، ثم أخذ بيدي إلى باب المسجد وقال: هذه المقبرة بفضل من الله دفنت أكثر من فيها، وأذكر لما جاءت البلدية لتسويرها أو لحفر شارع بجوارها انكشف أحد القبور فطُلبت لحضوره فلما نزلت القبر وجدت ريحاً طيبة تنبعث منه وقد مر على دفنه عقود.
لما رأيته كان عمره مائة سنة! تزيد سنة أو تنقص سنة واستمر في قيامه بالأذان إلى يوم وفاته، وكان مستعداً متهيئاً لأذان صلاة المغرب ذلك اليوم الموافق 27-5-1437هـ فتوفي -رحمه الله- وقد تجاوز المائة بأربع سنين، إذ كانت ولادته في عام 1333هـ، والعجيب أنه لم يتكلم إلا وعمره أربع سنين، ذلكم هو الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن عبدالله الغريري من بني خالد رحمه الله رحمة واسعة.
من فضل الله أن يسر لي تدريس القرآن بكلية الشريعة بالرياض في سنة من السنوات، وكان من ضمن الطلبة الذين أدرسهم أحد الشباب الذي سُمي على اسم جده، والذي كنتُ حريصاً على لقاء جده؛ إذ كان من أوائل تلاميذ سماحة شيخنا عبدالعزيز بن باز في الدلم، فيسر الله إلقاء محاضرة في البلدة الخيرة «الدلم», وقد ذكر الآلوسي في تاريخ نجد لما عدَّد قرى الخرج وذكر منها الدلم قال: (وفيهم أهل العلم والعمل)، وقد قلتُ هذه الجملة في بداية المحاضرة إشادة بهم كما أشاد الآلوسي رحمه الله. ومن باب الفائدة فمحمود شكري الآلوسي كتب عن تاريخ نجد محبة لها ولأهلها، وفي كتابه دَفَعَ عن أهلها وعن دعوة المجدد الشيخ محمد بن عبدالوهاب, وبيّن الحقيقة كما رآها، وقد حوى كتابه فوائد جليلة، وقد كان أهل العلم يهتمون به، وللشيخ سليمان بن سحمان -رحمه الله- تتمة له واستدراك عليه.
تواصلتُ مع حفيد الشيخ لألتقي بجده بعد المحاضرة ونقل لي: إصراره على تناول العشاء معه فأجبت دعوتهم -جزاهم الله خيراً وغفر لهم جميعاً، فلما جلستُ إلى الشيخ أنستُ به، وفرحتُ بلقياه، واستمتعت بلطيف ما حكاه، وكان محور الكلام عن الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله، فكان مما ذكر أن رجلاً لدغته عقرب أو عضته أفعى في مساء يوم حين كان الشيخ ابن باز قاضياً بالدلم، فقالوا للشيخ عبدالعزيز: هذا فلان قد لُدغ، والمشهور أنهم يضربون حوله بالدف طول الليل حتى لا ينام فينتشر السم في جسده بل لابد أن يبقى مستيقظاً إلى الفجر، فهل يجوز أن يضربوا بالدف لهذه المصلحة؟ فقال الشيخ: يحدثونه، ويقرأون عليه، ويقصون عليه يشغلونه عن النوم بذلك.
كان الشيخ ابن باز يُجل مضيِّفنا ويكرمه، فهو ممن كان يقرأ عليه في الدروس، وقد رزقه الله صوتاً جميلاً حسناً في القراءة، كما كان إماماً وخطيباً، وقد كان معلماً لسنوات، وقد خرَّج أجيالاً ثم انتقل إلى جهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالدلم ورئيساً لها، وليس هو بغريب عن هذا الجهاز، فقد كان والده يعمل في الحسبة.
لقد قرّت عيني برؤية الشيخ الصالح الفاضل الكريم عبدالرحمن بن عبدالعزيز بن محمد بن جلال والذي كان مولده في عام 1343هـ، وقد توفي في21- 22-2-1434هـ -رحمه الله وغفر له وأخلف على أهله ومحبيه خيراً - وصُلي عليه بعد صلاة الجمعة، وقد اتصلت على حفيده معزياً له في وفاة جده.
كنتُ عازماً على كتابة مقال عن الشيخ الفقيه الدكتور صالح بن غانم السدلان -رحمه الله- لكن عرض لي ما عرض فلم تُتح لي فرصة إلا في هذا العيد المبارك، وقد عرفت اسم الشيخ قديماً إذ كان يخرج دائماً في الإعلام المسموع والمرئي، يفتي ويعَلِّم, وكان أول كتاب قرأته له في آخر المرحلة الثانوية «مظاهر الأخطاء في التكفير والتفسيق»، وكتاب عن تنبيهات لزائر المدينة النبوية، ولما قدمت الرياض للدراسة كنت أقصد جامع الجوهرة بحي التعاون للصلاة فيه خلف الشيخ خاصة صلاة الاستسقاء، فكان الشيخ هو الإمام والخطيب، وكانت خطبته للاستسقاء مؤثرة، فيها ابتهال عظيم إلى الله وتضرع إليه سبحانه, فكانت عباراته ترقق القلب، ثم قويت العلاقة مع الشيخ، إذ زرته بصحبة شيخنا الشيخ فهد بن جاسر الزكري أكثر من مرة، وذهبت مع الشيخ صالح السدلان لزيارة الشيخ فهد في منزله بسدير، كان الشيخ لطيف المعشر، كريم اليد، حاضر البديهة، ذكياً لماحاً، جالس كبار أهل العلم، حدثني أنه جلس إلى الشيخ محمد بن إبراهيم عام 1374هـ بعد جلسة كبار الطلبة وكان يشرح لهم الأربعين النووية مع كتاب التوحيد وذلك بعد طلوع الشمس، ثم بعده ينصرفون إلى الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم ليشرح لهم الآجرومية والرحبية، كان طالباً مجداً في تحصيله العلمي، تخرج في كلية الشريعة عام 1386هـ وعُيِّن في مدينة عرعر فكان يكتب رسالة الماجستير هناك وحصل عليها عام 1391هـ، قال لي: (لولا أن بعض المشايخ طلب مني مواصلة الدراسة لتركتها تورعاً أن يكون طلبي للشهادة لا للعلم، حتى بان لي بعد إلحاح بعض المشايخ ألا تعارض بين نيل الشهادة وطلب العلم), نال درجة الدكتوراه عام 1403هـ عن موضوع مهم أبدع الشيخ في الكتابة فيه «النية وأثرها في الأحكام الشرعية». لما كان يدرس بالمعهد العالي للقضاء أوقفه الشيخ عبدالرزاق عفيفي -رحمهما الله- على الجدار وهو يريد الدخول، فقال له كما حدثني الشيخ صالح بنفسه: يا صالح أأنت تحلق لحيتك!! فقلت: لا! فقال: كيف ولا شعرة!! «وكان الشيخ لم ينبت شعر لحيته إلا متأخراً» ولعل وشاية أبلغها بعضهم إلى الشيخ عبدالرزاق فأراد نصح تلميذه بعد التأكد، يقول الشيخ صالح: فوضع الشيخ عبدالرزاق يده على لحيي فجعل يصعد بيده على لحيي وينزلها ثم دعا لي.
كان الشيخ يلقي دروساً كثيرة في مسجده خاصة بعد الفجر، وكان يكرم طلابه ويعزمهم، ويمازحهم، قال لأحدهم مرة: كيفك وقصعة من ثريد؟ فقال الطالب: احتضنها حتى تبيد، فقال الشيخ: أوخ! هذه إجابة قوية مرة.
كان وفياً مع أصحابه وزملائه فما زال يذكر من زاملهم في التعليم بعرعر ويسأل عنهم إلى وفاته.
وكان كريم اليد باذلاً جاهه وماله، فأصحاب الحاجات يقصدونه, ولعل أول جلسة لي معه حين ذهبت لمقابلة التعيين على خطيب جامع في فرع وزارة الشؤون الإسلامية وكان رئيس اللجنة فسألني عن الاسم ثم قال: تسمعنا شيئاً من القرآن أو تلقي علينا كلمة، فكان في صوتي ضعف للحمى التي كانت بي وقت المقابلة، فلما بدأت طلب مني أن أرفع صوتي فقلت: فيَّ حمى فلم يسمع، حتى أبلغه أحد أعضاء اللجنة ممن بجواره بقولي، فقال الشيخ: بسم الله عليك، بسم الله عليك, لا تكلف نفسك.
سألني مرة عما أُدرِّسه للطلبة في المعهد العالي للقضاء فقلت: هذا الفصل أُدَرِّس القواعد الفقهية، فقال: هل أهديتك كتابي في القواعد، فقلت: لا، فأهدانيه رحمه الله، وقد كان كتابه عندي، ولكن الإهداء من المؤلف له مذاق آخر! وكان آخر كتاب تلقيته هدية منه كتابه المفيد (العسكري في الإسلام حقوقه وواجباته)، وقد حدثني عن كتب حديثية (جمع فيها أربعين حديثاً) صدر بعضها وبعضها سيصدر قريباً. ومن أوائل الكتب التي أصدرها: تحقيقه لكتاب إبراهيم الحلبي المتوفى سنة 956هـ وعنوانه «الرهص والوقص لمستحل الرقص»، وقد نفع الله به في المغرب العربي.
وقد خلف الشيخ صالح كتباً كثيرة، ودروساً مسجلة، ومحاضرات علمية، أرجو أن أراها مجموعة في مجموع واحد، كما يمكن أن تسجل جهوده الدعوية، والعلمية واختياراته في رسائل علمية، وقد أحسن الشيخ صالح -رحمه الله- إذ أمر بأن تكون الصلاة عليه في المسجد الذي كان يخطب فيه ويصلي فيه كما فعل قبله الشيخ بكر أبو زيد حين جعل الصلاة عليه في المسجد القريب من منزله، رحم الله الجميع وتقبل منا جميعاً الصيام والقيام وصالح الأعمال.