د. محمد بن عبد الله ال زلفة
لم تغب القضية الفلسطينية منذ نشأتها عن الاهتمام المطلق من لدن ملوك آل سعود ولا عن اهتمام الشعب السعودي. بل ظلت هي القضية الأولى للقيادة السعودية حينما لم تكن هناك دولة عربية واحدة مستقلة عدا المملكة العربية السعودية التي اتخذت على عاتقها الدفاع عن القضايا العربية حينما غدر الحلفاء بريطانيا وفرنسا بوعودهم للعرب إبان تأليبهم في القيام بثورتهم ضد العثمانيين وصدق مغفلو العرب وعود تلك الدول الاستعمارية بأنهم سيمنحونهم التحررمن العثمانيين ومن ثم الاستقلال كان البديل للاستقلال المزعوم هو الاحتلال وتجزئة بلاد العرب غنيمة للمستعمر، ولم يكن الأمركذلك فحسب بل بلغ الكرم بالمستعمر البريطاني أن منح فلسطين هبة لليهود لإقامة دولة لهم عليها.
أين ذهب أحرار العرب الذين اكتشفوا الخديعة الاستعمارية ذهبوا إلى البلد التي اكتملت وحدتها على يد أبنائه وبدمائهم التي أرخصوها ليقيموا أكبر وحدة عرفها العالم العربي منذ زمن دولة الرسول-صلى الله عليه وسلم- وبنو أمية وهي وحدة الجزيرة العربية التي أصبحت تعرف في التاريخ الحديث بالمملكة العربية السعودية. هذه الدولة العربية الفتية المستقلة المعتمدة على نفسها قدرها أن تكون سنداً للعرب الأحرار التي وقعت بلادهم تحت سطوة المستعمر.
وأن تكون السند الأول والقوي للشعب الفلسطيني حينما لم يكن هناك أحد صادقاً يناصره في نضاله لإزالة الظلم عن نفسه بل كان من سوء حظه أن معظم الأنظمة العربية ومنذ أن كانت تحت هيمنة وسلطة الاستعمار تتاجر بقضيته وتطمع في الحصول على غنيمة جراء متاجرتها بالقضية الفلسطينية وبكل أسف ظل ديدن الأنظمة العربية التي تدعي أنها استقلت من المستعمر ومن خلال انقلاباتها العسكرية وتعدد أحزابها اليسارية أو اليمينية والمدعية باسم القومية العربية والوحدة العربية تمارس نفس النهج المتاجرة بالقضية الفلسطينية حتى على حساب شعوبهم حيث رفعوا شعارات لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، ومواجهة العدو الصهيوني وماهي الا شعارات صدقها مغفلو العرب فتلك الأنظمة ومنها من لايزال يتاجر بالقضية الفلسطينية حتى اليوم بأسماء مختلفة آخرها جبهة المقاومة التي يتزعمها أكذب العرب مسنودين بأكذب المسلمين نظام الملالي في إيران فلم تثمر تلك الشعارات إلا الويلات والهزائم والإذلال لأمة العرب، فبدل أرض عربية واحدة محتلة وهي فلسطين أصبح لدينا أكثر من بلد وعاصمة عربية محتلة من قبل الفرس وأعوانها العرب باسم المقاومة، نجم عنها ليس فقط احتلال تلك العواصم العربية بل تهجير ملايين العرب إلى خارج أوطانهم وتدمير المدن العربية التي تحتاج إلى عشرات السنين لإعادة إعمارها وذلك باسم المقاومة.لم تكتف قوى المقاومة المهزومة التي تُضرب ليل نهار من قبل إسرائيل وعلى أراضي دول المقاومة المحتلة من قبل ملالي إيران دون أن تقوم دول المقاومة بما فيها وليهم الكبير بأدنى رد فأصبحت مفضوحة أمام الرأي العام العربي الذي انخدع بعضهم بشعاراتهم وإعلامهم لم يكتفوا بتضليل العالم العربي وبما فيهم الإنسان الفلسطيني الشريف بأكاذيبهم بل سددوا سهامهم ووسائل إعلامهم تجاه المملكة العربية السعودية الدولة العربية الوحيدة التي ظلت صادقة مخلصة لمواقفها تجاه قضية العرب الأولى فلسطين منذ وعد بلفور وقيام مشروع التقسيم وموقفها الصلب حينما كانت ولاتزال الدولة العربية المستقلة الوحيدة في مواجهة أكبر القوى العالمية الكبرى مواجهات مبنية على الحق وثبات على المبادئ تجلت في موقف الملك عبد العزيز مع الرئيس روزفلت أثناء لقائه به في البحيرات المرة وتخصيص معظم حديثه عن القضية الفلسطينية.
وكذلك إبان لقائه بونستون تشرشل بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية حيث كانت قضية فلسطين أهم محاور اللقاء.
كان الملك عبد العزيز يتحدث عن قضية فلسطين وهو الزعيم العربي الوحيد المستقل الذي تبنى قضية فلسطين بنفس الأهمية التي شغل نفسه على مدى أكثر من ثلاثين عاماً وهو يوحد بلاده رغم كل الظروف الصعبة والتحديات الإقليمية والدولية والتآمر حتى من بعض الزعماء العرب الذي كانوا يرون في ما أقامه الملك عبد العزيز من وحدة هي الأولى في العالم العربي تهديداً لمصالحهم، وهكذا كانوا يتوهمون، أما أحرار العرب فكانوا ينظرون لتلك البلاد السعودية الموحدة هي ملاذهم حينما تخلى عنهم أصحاب الوعود الكاذبة.
حديث الملك عبد العزيز مع السياسي البريطاني المعروف ديكسون والمعروف في الكويت التي اختارها موطنا له بعد تقاعده من العمل السياسي وعُرف فيها بابو سعود وزوجته بأم سعود وماتا ودفنا في الكويت.
قام ديكسون ومعه زوجته بزيارة إلى الرياض بتاريخ أكتوبر 1937م بدعوة من الملك عبد العزيز وفي الرياض بيت العرب وعاصمة قلب بلاد العرب كان للملك عبد العزيز هذا الحديث المطول والمفعم بالصدق والحماس في الدفاع عن قضية فلسطين وتحميل المسؤولية لحكومة بريطانيا رغم علاقة الملك التاريخية مع بريطانيا إلا أنه كان واضحاً وصريحاً وصاحب رؤية لما ستؤول إليه الأحوال في منطقتنا العربية نتيجة الخطأ الكبير الذي قامت به بريطانيا في خلق دولة إسرائيل في قلب عالمنا العربي.
إنه الوقت المناسب ليعاد نشر هذا الحديث الذي نقله ديكسون بكل أمانة في كتابه الكويت وجاراتها ونقلته إلى اللغة العربية الدكتورة فتوح عبد المحسن الخترش، وذكر ديكسون بأنه سينقل حديث الملك عبد العزيز إلى حكومة بلاده رغم أنه قد تقاعد من العمل السياسي، وكان ديكسون مثله مثل غيره من كبار السياسيين البريطانيين وغيرهم من سياسيي العالم الذين سمحت لهم الفرص بلقاء الملك عبد العزيز من أشد الناس إعجابا به وبقيادته وحنكته وصدقه وإخلاصه في خدمة قضايا أمته العربية.
وديسكون سياسي بريطاني ولد في القدس لأب سياسي كان يشغل منصب قنصل بريطانيا في القدس إبان فترة الحكم العثماني تشرب بالثقافة العربية وأتقن لغتها ورضع من مرضعة عربية بدوية حينما فقد أمه وكان صغيراً.
تعلم في اكسفورد والتحق بالخدمة العسكرية وعين مندوبا لبلاده في البحرين في عام 1919م وقام بأول زيارة للملك عبد العزيز في الأحساء في مطلع عام 1920 وكتب عن تلك الزيارة تقارير طويلة تحدث فيها عن شخصية الموحد الملك عبد العزيز وقصة نجاحه في إقامة وحدة بلاده والتحديات الصعبة التي واجهته، وقد قام كاتب هذه السطور بترجمة تلك التقارير التي تعد على قدركبير من الأهمية وأصبحت جاهزة للطبع.
أرجو أن يعرف أبناء هذا الجيل من العرب السعوديين وغيرهم بأن موحد بلادهم ومن بعده أولاده وأحفاده مسنودين بقوة وإرادة شعب المملكة العربية السعودية لم يتوانوا أو يتوقفوا يوماً عن مساندة قضايا أمتهم العربية حتى وإن جحد الجاحدون.
نص حديث الملك مع ديكسون
« يا ديكسون. أنت لست فقط صديقنا وصديق العرب، ولكني أراك جئت مرتديا ثياباً مثل ثيابنا، كواحد منا، ولذلك فالترحيب بك مضاعف».
وبسرعة، انتقل إلى الموضوع الذي كان من الواضح أنه هو القريب إلى قلبه، وهو المشكلة الفلسطينية، وظل يتحدث حوله لمدة ساعة ونصف الساعة، وكان من الطبيعي أن أوضح بشكل لا يحيط به أي لبس أوغموض أن زيارتي لا تعدو أن تكون زيارة شخصية بحتة، وأنني حصلت على موافقة وزارة الهند ووزارة الخارجية قبل حضوري ورغم ذلك، ألمح الملك إلى أنه يأمل أن أقوم بإبلاغ الدوائر الرسمية بما سمعت، حتى وإن كان في ذلك ما يتعارض مع النظم المتبعة.
كان يتكلم أغلب الوقت في نبرة خفيضة جادة، وكما لوكانت كلماته غير موجهة لمستشارية الجالسين من حوله، وكان لا يكف عن تأكيد معنى ما يقول بالإمساك بذراعي بقبضة يده، وفورانتهاء اللقاء، سجلت كل ما قاله ودونته بنفس كلماته بقدر المستطاع، مستخدماً ضمير المتكلم الجمع عندما يتحدث عن نفسه.
« نحن نعرف يا ديكسون أنك لم تعد تشغل منصباً رسمياً في الحكومة، ولكن نظراً لأنك توليت منصباً رفيعاً في ظل حكومة صاحب الجلالة لعدة سنوات، فنحن نعلم أنك محل ثقة حكومتك، ونحن لا نكتفي بالترحيب بك ترحيباً مضاعفاً، بل ويمكننا أن نفتح قلبنا لك؛ ونحن سعداء لأنك تمكنت من زيارتنا في عاصمتنا.
«إننا نتطلع بكل تلهف لأن ترسل إلينا الحكومة البريطانية كل ثمانية أشهر أونحو ذلك مسئولاً من ذوي الخبرة يكون محل ثقتها. أو موظفاً سابقاً مثلك أنت، يمكنه أن يستمع بنفسه لما نفكر فيه، ولما يشغل قلوبنا من مشكلات لأننا نعيش مرحلة بالغة الأهمية ومفعمة بالأخطار هذه الأيام. ونحن نشعر أن الاتصال الشخصي من هذا النوع سيكون أكثر جدوى بكثير من أي كمية من الرسائل المكتوبة أوالاتصالات البرقية، والتي رغم ما لها من فائدة في حد ذاتها يعجز عن توصيل المعنى الكامل لأفكارنا ومشاعرنا، وسوف تؤدي إن أدت إلى شيء إلى غرس سوء التفاهم وسوء التفسير بدلاً من إزالتها.
ولكن مثل هذا الشخص إذا أرسل لنا وعندما يرسل لنا، يجب أن يكون على دراية عميقة بلغتنا، ويفهم المعنى الواسع لكلامنا الجميل المليء بالجمل الرمزية والمعبرة، وليس هناك أي جدوى من إرسال رجل يكتفي بالإصغاء لما نقوله ثم فهمه عن طريق المترجم، يجب أن يعرف وأن يتفهم نفسيتنا «سيكولوجيتنا» العربية وأن يكون مُلماً إن أمكن بأخلاقنا وعاداتنا العربية كما يجب قبل أي شيء آخر، أن يكون على دراية باعتزازنا بأنفسنا نحن العرب، وبما يحدونا من آمال، وأن يكون قد قرأ شيئاً من كلام الله الذي تعطف فوهبه لنا في قرآننا الكريم.
« يا ديكسون. متى ستدرك حكومتك في لندن أننا نحن العرب يمكن لأي شخص أن يأسرنا، جسداً وروحاً، بكلمة طيبة أو صنيع جميل، ولكننا نتحول إلى أعداء لا نعرف الهدوء أو السكينة أبد الدهر لكل من يعاملنا بجفاء أو يحيد عن العدل في علاقته بنا؟
« إننا نشعر اليوم، ويشعر معنا كل قومنا، بالقلق العميق حول القضية الفلسطينية، وسبب قلقنا وانزعاجنا هو الموقف الغريب لحكومتكم البريطانية، والتأثير الأشبه بالتنويم المغناطيسي الذي يبدو أن اليهود- وهم جنس ملعون من الله سبحانه وتعالى كما جاء في كتابه المقدس ومحكوم عليه بالدمار في خاتمة المطاف- يمارسونه عليها وعلى الشعب الإنجليزي عموماً.
« القرآن يتضمن كلمة الله ومشيئته الإلهية، ونحن نوصي حكومة صاحب الجلالة أن تقرأ بكل عناية وأن تتبع ما جاء في الآيات التي تتناول اليهود وخاصة فيما يتعلق بمصيرهم النهائي المحتوم لأنه لا تبديل لكلمات الله ولابد لها أن تنفذ.
ونحن العرب نؤمن إيماناً مطلقا بكلمة الله الكاشفة، ونعلم أن الله صادق الوعد. ونحن لا يعنينا شيء في هذا العالم إلا إيماننا بربنا ورسوله، وبشرفنا أما كل ماعدا ذلك من أمور فهو لا شيء على الإطلاق، ولا حتى الموت، كما أننا لا نهاب المشاق، أو الجوع أو النقص في متاع هذه الدنيا، الخ؛ ونحن قانعون تماماً بأن نأكل لحم إبلنا وتمرنا حتى آخر يوم من حياتنا. بشرط ألا نتخلى عن تلك الأشياء الثلاثة.
وترجع كراهيتنا لليهود منذ أدانهم الله لمطاردتهم ورفضهم لعيسى»المسيح» وما أعقب ذلك فيما بعد من نبذهم لنبيه المصطفى. ونحن لا نستطيع أن نفهم كيف يمكن لحكومتكم، التي تمثل أكبر دولة مسيحية في عالم اليوم، أن ترغب في مساندة ومكافأة نفس هؤلاء اليهود الذين عاملوا نبيكم عيسى بكل قسوة وفظاظة.
« لقد كنا نحن العرب الأصدقاء المخلصين لبريطانيا العظمى لعديد من السنوات وكان آل سعود على وجه الخصوص صديق حكومتكم الذي لا يحيد مدى الحياة، فأي جنون إذاً هذا الذي يقود حكومتكم إلى تدمير هذه الصداقة التي دامت قروناً، وكل ذلك من أجل جنس ملعون متكبر طارد أنبياءه ونبذهم منذ بداية العالم، وكان دائماً يعقر اليد التي تمتد إليه بالمساعدة؟
« كان من الأفضل، من الأفضل كثيراً ومن كافة النواحي لو أن بريطانيا العظمى ضمت فلسطين إلى ممتلكاتها وحكمتها لعدة مئات من السنوات القادمة، بدلاً من تقسيمها على النحو الذي تقترحه فهذا التقسيم لا يمكن أن يحل المشكلة، ولا يمكن أن يؤدي إلا إلى استمرارها إلى الأبد، وإلى الحرب والبؤس. ويبدو أن بعض الناس يعتقد أننا، آل سعود، لنا مطامعنا الخاصة في فلسطين وأننا نريد الاستفادة مما يسودها الآن من قلاقل واضطرابات لنتدخل ونعرض تولي الأمر فيها. ومن المؤكد أن هذا يمكن أن يكون حلاً، ولكن الله يحرم ذلك، لأن لدينا ما يكفي وزيادة من الأرض.
ونحن الآن الإمام الزعيم الروحي والحاكم الزمني للجانب الأكبر من شبه الجزيرة العربية، ونفوذها أيضاً ليس بالقليل في جميع البلدان الإسلامية الكبرى في العالم. والحكومة البريطانية، صديقتنا تضعنا في أكثر المواقف صعوبة وإحراجاً فمن ناحية تنهال علينا النداءات من خلال أعداد لا حصر لها من الرسائل والبرقيات، ليلاً ونهاراً من جميع أنحاء العالم، للتدخل واستنقاذ فلسطين للعرب بل وهناك من يلح علينا من قومنا في نجد، ومن جميع المسلمين ممن حسن إسلامهم في العالم الخارجي، من أجل قطع علاقتنا بالإنجليز واستنقاذ فلسطين لشعبها عن طريق الحرب. ومن الناحية الأخرى فنحن نرى أنه من أفدح الأخطاء أن نقطع علاقاتنا بأصدقائنا القدامى، الإنجليز لأن هذا يعني جلب دمار شديد للعالم ويمكن أن يكون لصالح اليهود أعداء العربية السعودية والإنجليز في نفس الوقت.
ونحن بالقطع لن نشن حربا ضدكم أيها الإنجليز ولقد أحطنا قومنا علماً بذلك، لأنني الشخص الوحيد بينهم الذي يمكنه أن يمتد بناظريه بعيداً إلى المستقبل؛ ونحن نعلم أننا إذا تصرفنا على هذا النحو فلابد أن نخسر الحليف المحتمل الوحيد لنا الآن.
ألا تسعى ألمانيا وإيطاليا، وخاصة تركيا اليوم مثل الذئاب المسعورة لالتهام ما يمكن التهامه؟ إنهم ينافقوننا جميعاً الآن، ولكننا نعلم أنهم يودون افتراسنا فيما بعد ونحن نؤمن بأن إنجلترا الصديقة سوف تمنعهم دائماً من تحقيق مآربهم ومن هنا ورغم أنني كمسلم لا أحمل حباً خاصاً لأي أمة مسيحية إلا أن المصلحة السياسية تقتضي أن نكون على علاقة طيبة بأحسنها وهي بريطانيا.
والمشكلة الشاقة هي قومنا العرب وقبائل الإخوان في نجد، وبالنسبة للقضية الفلسطينية هم لا يرون إلا ما يظهر أمامهم وتراه عيونهم ولا يمكنهم أن ينظروا إلى الأمور نظرة أبعد مدى. وهم يلومونني حتى في الوقت الراهن ويتهمونني بالتردد والامتثال لأوامر الإنجليز ومع ذلك تتوقع حكومتك أن أظل مسيطراً عليهم كابحاً لجماحهم ويجب على حكومتك ألا تنسى أنني الزعيم الديني للعرب ومن ثم فأنا الذي يفسر القرآن إن كلمة الله بالنسبة لهم لا يمكن التلاعب بها.
ونحن نتعلم من كلمة الله بلا ريب ونحن نؤمن إيماناً صادقاً يا ديكسون بأنه إذا قتل المسلم يهودياً، أو قتل هو على يد يهودي فهو يدخل الجنة على الفور ويمضي إلى جوار الله جل جلاله فماذا يمكن للمسلم أن يطمع فيه أكثر من ذلك في هذا العالم المليء بالمشاق؟ إن قومي لا يكفون عن تذكيري بذلك والأمر المؤكد أن حكومتكم تضعني في نفس المأزق الذي سبق أن وضعتني فيه في عامي 1929و 1930 وهو الأمر الذي أدى إلى تمرد الإخوان ضدي.
والطبع بالطبع أعداؤكم كما هم أعداؤنا رغم أنهم يستخدمونكم بذكاء في الوقت الراهن وسوف ترى حكومتكم وتدرك فيما بعد كيف يمكنهم استخدام أنيابهم. واليهود يفضلون في الوقت الراهن أن يتربصوا انتظاراً للفرصة المواتية وألا تعلم حكومتكم أن اليهود لا يهدفون على المدى البعيد إلى مجرد الاستيلاء على فلسطين كلها وإنما تمتد مطامعهم إلى الأراضي الممتدة جنوبها حتى المدينة؟ أما من جهة الشرق فهم يأملون في التوسع إلى أن يصلوا إلى الخليج، وهم يخدرون عقول بعض الإنجليز الذين ليس لهم موقف محدد بترديد الأقاصيص التي تزعم أن وجود دولة صهيون قوية وموالية لبريطانيا تمتد من البحر المتوسط إلى الخليج، يمكنها أن توفر الحماية لطرق مواصلات الإمبراطورية سواء في قناة السويس أو في معبر العراق، ويقولون إن العرب أعداء لإنجلترا وسيظلون أعداء لنا على الدوام.
وهو يلعبون في نفس الوقت على عقول الجماهير البريطانية العاطفية بأن يزعموا لها أن أنبياء العهد القديم تنبأوا بأنهم أي اليهود سوف يرجعون بالفعل إلى أرض الميعاد أو أنهم بنو إسرائيل، المطاردون الهائمون على وجوههم، ينبغي ألا يحرموا من حقهم في أن يكون لهم مكان صغير في العالم يريحون فيه رؤوسهم المثقلة كيف يا ديسكون ستكون الحال مع شعب اسكتلندا إذا أعطى الإنجليز أرضه فجأة لليهود؟ ولكن لأنه من الأسهل أن تتخلى عن بلاد شعوب أخرى.
ومما يثبت أن يهود فلسطين يقومون الآن بأكبر قدر من الإثارة واللعب على الأعصاب لإحداث انقسام دائم بين الشعب الإنجليزي والعرب، هذه الاغتيالات الأخيرة لعدد من المسئولين في فلسطين، فمن الواضح وضوح الشمس أن السفاحين الجناة من العرب الكفرة مأجورون جلبوا من الخارج ليرتكبوا جرائمهم الدنيئة، وأن دوائر يهودية هي التي تمول نشاطهم ونحن نعلن أن هذه حقيقة مطلقة لا جدال فيها وألم يقسم لنا مفتي القدس الأكبر في حرم مكة أمام الكعبة أنه ليس يلجأ إلا للأساليب الدستورية في معارضة المؤامرات الصهيونية في فلسطين؟ إننا نحن آل سعود مازلنا نصدقه حتى اليوم.
إن ما نخشاه أكثر من أي شيء آخر، والذي يجب على بريطانيا ألا تسمح به هو تحويل شعب شبه الجزيرة العربية وشعوب البلدان العربية المجاورة إلى أعداء لكم، ولو أن ذلك حدث، لكان جريمة لا تغتفر ولا يمكن علاجها، لأن العرب كما قلنا لا ينسون جراحهم مهما طال الزمن. وسوف يتحينون الفرصة للِثأر ولو بعد مئات الأعوام إذا لزم الأمر. ولن يتوانى أعداء إنجلترا عن الاستفادة من ذلك، وسوف تكون معاناة إنجلترا من بعض المشكلات أو انشغالها في حرب في مكان آخر، هي إشارة البدء للعرب ليتحركوا ويعملوا.
إنني أكره مجرد التفكير في إمكانية حدوث ذلك ولكني على يقين من أن تقسيم فلسطين سيفضي إليه، رغم كل جهودكم التي لا تسير في الاتجاه الصحيح، وأنا لا أستطيع أن أساعدكم إلى الأبد، لأني لن أعيش أكثر من خمسة أعوام.
ولذلك فنحن نكرر، أن الحل الوحيد الذي نراه هو أن تتولى بريطانيا العظمي بنفسها حكم فلسطين، ولن يكون ذلك، بالطبع على هوى الصهاينة ولكن ينبغي عدم الأخذ بآرائهم، وسوف يوافق العرب على هذا الحل، وأما الذين لا يوافقون فسوف يدفعهم إلى الموافقة أناس مثلي والشيء الرئيسي هو منع اليهود، مهما كان الثمن من أن تكون لهم دولة مستقلة خاصة بهم مقتطعة من الأراضي العربية، وبدون أن يكون هناك من يتحكم في أعمالهم وسياستهم في المستقبل، وسوف ينتج عن ذلك صراع أبدي مع العرب الذين يعيشون حولهم أولاً، لأن اليهود المصرين على التوسع، سوف يتآمرون منذ اللحظة الأولى ولن يهدأ لهم بال حتى يرسخوا العداء والصدام بين بريطانيا العظمى والعرب، وهو الوضع الذي يعقدون آمالهم على الاستفادة منه وثانياً فسوف يسعى اليهود لأنهم يملكون المال، إلى إنشاء جيش ميكانيكي وقوات جوية على أعلى درجة من الكفاءة وإن كانت صغيرة الحجم، سوف تستخدم بلا شك في يوم من الأيام للأغراض العدوانية في شرق الأردن وفي معقلهم القديم، المدينة وهي الأرض التي توجهوا إليها عندما طردوا من فلسطين وتشتتوا بعد أن دمر الرومان القدس.
ويجب على حكومتكم على الفور وقبل أي شيء آخر، أن تزيد من الحد من هجرة اليهود إلى فلسطين ولندع من جاءوا إليها يستقرون بها ولكن مع عدم السماح بمجيء المزيد من المهاجرين.
وهنا تحينت الفرصة التي تهيأت لي عندما توقف الملك عن إلقاء محاضرته الرنانة وربما عن غير إرادة منه لأوضح وجهة نظر حكومة صاحب الجلالة وقبل أن أسترسل أوقفني بطريقة حادة وقال: « يا إلهي إن حكومتك ليس لها وجهة نظر إلا تعمد اقتراف الظلم، إن كل من يخاف الله مسلماً كان أم مسيحياً يعلم أنه ليس من الصواب تعمد ارتكاب الخطأ مهما كانت البراعة التي يصور بها هذا التصرف للناس وإذا كنت أنا البدوي من شبه الجزيرة العربية أرى بشكل واضح وضوح الشمس أن تقسيم فلسطين شر وخطيئة عند الله فهل هناك شك في أن الساسة البريطانيين الأكثر فطنة يمكنهم أن يروا ذلك إذا كانوا يخافون الله؟ الحمد لله أننا نؤمن به وبأن لا إله إلا هو، ونحن نعلم أن هذا الإيمان الذي يعمر قلوبنا هو الذي يجعلنا نرى الأشياء بهذه الدرجة من الوضوح، ونحن على يقين أننا على الحق لأنه سبحانه سينزل عقابه بنا آل سعود، إذا كذبنا عليه ولذلك فليس هناك جانب آخر لهذه المسألة، إلا إذا كان الأمر صفقة مع الشيطان.
وفجأة بدا وكأن الملك أصابه الإرهاق وأن الجهد الذي بذله طوال هذا الحديث أكبر من أن يتحمله وبعد أن نادى على محمد جسور لقراءة آخر الأنباء التي وصلت بالراديو من جميع أنحاء العالم على الجمع الجالس من حوله صرفني في مودة ولكن في حزم أيضاً.
وقبل وداعي للملك بعد انتهاء زيارتي عاد مرة أخرى إلى القضية الفلسطينية التي لا مفر من إثارتها في كل وقت، وظل يتحدث لمدة نصف ساعة مردداً كل الحجج والنقاط التي سبق له أن أثارها، ولكن بشكل أكثر حدة هذه المرة، وكان من الواضح أن القلق يستبد به فعلاً خشية وقوع انشقاق بين العرب جميعاً في جانب والإنجليز في جانب آخر.
إن حكومتكم تحفر هوة سحيقة بينها وبين العرب، وإذا لم تكف عن الحفر، فسوف تبتلع الهوة الطرفين معاً، ومازال هناك جسر يمكن أن نعبرعليه هذه الهوة، ولكن الحفر المستمر سيؤدي إلى انهياره، وهنا ستكون نهاية أي صداقة عربية مع إنجلترا. أليست هناك من وسيلة لدفع حكومتكم للإقلاع عما تفعل.
وواصل حديثه موضحاً كيف أن الأتراك كانوا في وقت من الأوقات أمة عظيمة وعرفوا كيف يتعاملون مع الأمراء العرب في شبه الجزيرة العربية بكل التقدير والتكريم، ولم يكونوا يستمعون لمشورتهم فحسب. بل كانوا ينعمون عليهم بالألقاب الرفيعة ويغمرونهم بالهدايا. كان ذلك أيام كان لدى تركيا رجالها العظام الذين يديرون شئونها. وأما فيما بعد فقد فشل الأتراك في إنجاب رجال من هذا النوع فانتهى الأمر بهم إلى العجز عن الاحتفاظ بشبه الجزيرة العربية أوحتى باحترام العربي، وظهر المسئولون من النوع الرديء في كل مكان. وأخذوا يسيئون لحكومتهم المركزية ويهزون مكانتها ويشوهون اسمها. وماذا كانت النتيجة؟ تهاوت تركيا وأصابها الضعف من الداخل، وذلك كله نتيجة لأخطاء المسئولين المحليين التعساء الذين لم تكن تحركهم إلا مصالحهم الخاصة، ولا يبالون بما يلحقونه بدولتهم من أضرار طالما أن في إمكانهم الحصول على الترقية بأبخس الأثمان وتحقيق الثروات بتلقي الرشاوي.
وقال الملك: وحكومتكم تحث الخطى اليوم في نفس الاتجاه الذي اندفع اليه الأتراك من قبل. وها هم مسئولون في المواقع الهامة يقتفون أثر أتراك الأمس ولا يقومون بواجبهم تجاه حكومتهم المركزية.
وهنا أشار الملك إلى خلع الشيخ عيسى بن علي آل خليفة حاكم البحرين في عام 1923 والذي أساء لإنجلترا في شبه الجزيرة العربية أكثر من أي إجراء آخر على مدى مائة عام.
وقال الملك: لم يكن الشيخ عيسى أباً للخليج فحسب وإنما لشبه الجزيرة العربية كلها أيضاً، ونحن العرب، وخاصة نحن وبيتنا ننظر إليه بكل الإعزاز والتقدير والمحبة، وكان من الممكن أن نضحي بأرواحنا من أجله لو أنه أشار لنا بإصبعه الصغير وطلب المساعدة. ولكن ماذا حدث؟ لقد طرد من مملكته الصغيرة وهو الكهل الواهن الذي أربى على التسعين من عمره ليموت منزوياً مهاناً وقلبه ينفطر ألماً. وما هو المقابل؟ مجرد إرضاء الطموح الشخصي لنفر من المسؤولين. إن مثل هذه الأشياء لينبغي عدم السماح بحدوثها، ويجب أن تختار حكومتكم مسئوليها على نحو أفضل من ذلك.
وواصل حديثه فقال إنه لهذا السبب طلب أن ترسل إليه حكومة صاحب الجلالة مسئولين يجرى اختيارهم بكل دقة، من وقت لآخر ليستمعوا إلى ما يريد أن يقوله «من الرأس للرأس» أي من خلال الاتصال المباشر. وبعد أن استمعت إلى عدد آخر من الاتهامات الموجهة ضد بعض المسئولين البريطانيين الآخرين في الخليج، والذين لا داعي لذكرهم انتهزت الفرصة لأشكر جلالته لما أبداه من روح المودة والكرم تجاه زوجتي وتجاهي، وتأهبت للانصراف وكان آخر ما فعله هو أن طلب أن تتلى عليه آخر الأنباء الواردة عن طريق وكالة رويترز في حضوري.
وقال: « أنا أعيش على الأخبار الواردة بالبرق هذه الأيام، لأن العالم كله يغلي وتنفجر الأزمات في كل مكان، ويجب أن أكون على اتصال بكل ما يجري.