عبد الله باخشوين
** صداقتي لأبي وأمي التي بدأت منذ أن بدأت محاولة الفهم - في نحو الثامنة - إلى أن ذهب كل منا في طريق.. منحتني القدرة منح من هم أكبر مني سناً التقدير الذي يستحقونه.. في ملازمتهم أدركت حقيقة أنهم لا يريدون سوى حسن الإصغاء. وهذا ما حدث.
على الجانب الآخر اكتسبت زوجتي نفس الميزة نتيجة لنشأتها في رعاية جدتها وأكبر عماتها وملازمتها لهما إلى أن التقت بي.
في بداية رحلتي للعراق في نحو عام 1976 التقيت في مجلة (وعي العمال)، حيث عملت في قسمها الثقافي.. التقيت قتيبة عبدالله التكريتي وكان يعمل مصححاً لغوياً وزوجتة هناء إبراهيم العزاوي التي كانت تعمل في قسم التحقيقات.. كانا كبيرين في السن- قياساً لعمرينا.. زوجتي وأنا- وحتى بعد دعوتنا لبيتهما لم أكن أعرف أنه أحد كبار مثقفي أبناء جيله أمثال منعم حسن وعبدالرحمن طهمازي ووليد جمعة وغيرهم. وبسرعة غريبة دخلت زوجتي قلب (أمه) وأختيه اللتين لم يتزوجا بعد.
عرفت أولاً أن قتيبة - رحمه الله - الابن الأكبر على خمس بنات وأن خير الله طلفاح - خال صدام حسين- يعتبر خاله أيضاً وأن ثلاثاً من أخواته متزوجات من ثلاثة من كبار ضباط (الحرس الجمهوري).. وأنه كان بعثياً في موقع متقدم.. قبل أن يترك الحزب في 1969 ويصبح منبوذاً في محيط (العائلة) بدءاً من البكر وخير الله وصدام وانتهاءً بأزواج شقيقاته.
رحل للأردن وانخرط في صفوف (الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين) وخاض هناك معارك (أيلول الأسود) عام1970 وخرج مع من خرج من الفلسطينيين إلى لبنان.. وفي بيروت تعرَّف على زوجته التي كانت قد خرجت من الأردن مع مقاتلي (الجبهة الشعبية) التي تنتمي إليها ثم شاركت في انشقاق كبير على (الجبهة) وحكم عليها بالإعدام - تنظيمياً- وتزوجا في بيروت وعادا للعراق ليعيشا حياة المنبوذين والمهمشين هما ومن ذكرت أسماءهم.. الذين تركوا بدورهم العمل في صفوف (الحزب الشيوعي العراقي).. وتلتقي هذه المجموعة مع عدد كبير من أقرانهم على عدم الإيمان بمبادئ الحزبين اللذين شكلا معاً ما سُمي بـ(الجبهة الوطنية الديمقراطية). ومن الطريف القول إنني تعرَّفت في نفس الفترة - تقريباً- على الروائي السعودي عبد الرحمن منيف الذي كان قد ترك (حزب البعث) في عام 1962مع من انشقوا عن الحزب بعد المؤتمر الذي عُقد في بيروت في ذلك العام وتم استدعاؤه للعمل في العراق بعد تأميم النفط عام 1972 كخبير بترولي بعد حصوله على درجة الدكتوراه في هذا المجال.. غير أن خلافه مع صدام حسين أدى لإبعاده وتم إنشاء مجلة (النفط والتنمية) التي عيِّن رئيساً لتحريرها.
علاقتي بقتيبة تطورت إلى أن أصبحنا نقضي معاً يومي إجازة الأسبوع بالتناوب بين منزلينا.. ولم يكن من الممكن أن لا تأخذ أمه - رحمها الله- زوجتي إلى (القصر الجمهوري) لتتعرَّف على بناتها اللواتي يسكن هناك.. وتخصص يوماً في الأسبوع لزيارة زوجتي وشرب القهوة معها ولم تكن تذهب لزيارة بناتها إلا و(أم محمد) معها وإذا تخلّفت عن الذهاب ترسل لها سيارة من (القصر) لتأتي بها.
على الجانب الآخر- الهام بالنسبة لي- لعبت علاقتي بقتيبة وأبناء جيله دوراً هاماً في بناء (شخصيتي الثقافية).. فمنهم أولاً عرفت كل سلبيات الحزبين -البعث والشيوعي بطريقة منحتني الإيمان واليقين بعدم إمكانية تعاطفي مع أي منهما... وكانوا يسمون أنفسهم (المستقلين) وأصبحت بدوري (مستقلاً) وانفتاح (عقلي المستقل) اختصر لي المسافات من خلال حسن الإصغاء لمثقفين كبار أحبوا حسن إصغائي ولهفتي للمعرفة.. فقدّموا لي أهم الكتب في المعرفة والإبداع وبعد أن قدّمت لهم -على استحياء- قصصي الأولى لقراءتها..وأعجبتهم.. منعوني (تقريباً) من قراءة أي أعمال غير إبداعية.
ووصل تطرفهم لمنعي من قراءة (الأدب العربي) وقالوا (ارجع له بعدين) فقرأت من مكتباتهم معظم أمهات الأدب الإنساني، وكانوا يديرون من حولي ومعي نقاشات ثرية أضاءت لي خلفيات ومعارف كنت احتاج لعشرات السنين لفهمها ومعرفتها.
عندما عدنا بعد سنوات قلت لزوجتي (حكومة المملكة) أرسلت الشباب في بعثات لأمريكا وأوروبا.. وأنا وأنت ابتعثنا إلى العراق إجبارياً فقالت:
- تم دمجنا في حياة ثرية جداً وفي مكتبة كبيرة ومع معلمين كبار..؟!
أردفت بأسف:
- ما أظن يوجد أحد منهم عايش.. الله يرحمهم ويجزيهم كل خير.