لبنى الخميس
يجلس في غرفته المظلمة.. يضئ شاشة الكمبيوتر أمامه.. يعتصر ذاكرته محاولاً استحضار كلمة السر بصعوبة.. لحسابات مجهولة أسسها قبل أيام.. لثلاثة مواقع مختلفة.. هذا الحساب لمهاجمة ما يخالف أفكاره في تويتر.. وهذا لمن ينشر صوراً تعارض قناعاته في انستغرام.. أما هذا الحساب فلإمطار من يعارض محتواهم في يوتيوب بسيل من التعليقات المسيئة.
قد تستغرب حين تعرف أن هذا الكائن الغاضب.. الذي أدمن توزيع الشتائم والإساءات بسخاء من حسابات مجهولة.. هو قط وديع وانطوائي في العالم الواقعي.. لكنه نمر جارح في العالم الافتراضي.. يحمل معه قاموساً فاضحاً لا يجترئ استخدام ربع مفرداته أمام الناس.. لكن فضاء الإنترنت بالنسبة له سوق مفتوح وغابة كبيرة.. لا تعرف قيماً أو مبادئ بل تحكمها.. شريعة الغاب.
من يعرف الإنترنت ويتقن التجول في دهاليزه.. يعرف جيداً أنني لا أتحدث عن حالة فردية وناشزة.. بل أقف أمام ظاهرة موجعة ومستشرية.. سقط ضحيتها ملايين البشر.. باختلاف أجناسهم وأعمارهم وخلفياتهم العلمية والمهنية.. عنوانها (التنمر الإلكتروني) وهو سلوك عدواني يقصد به إيذاء مشاعر الأشخاص عبر الإنترنت. وقد كان التنمر بمفومه الواسع محصوراً يوماً في أسوار المدارس بين الطلاب المراهقين.. وذو ثمن باهظ يترتب عليه استدعاء الأهل لتقويم سلوك الابن وفصله إن تكرر الأمر.. لكنه اليوم تجاوز أروقة المدارس وسلوكيات الطلبة المتمردين.. وبات باب سهل العبور وفي متناول اليد.. بل ويمكن التنصل منه ببساطة.
يرتدي التنمر الإلكتروني اليوم، ثياباً وأوصافاً مختلفة تتناسب مع منصاته المتعددة.. «مثل الهشتقة الكلمة المشتقة الهاشتاق وهي علامة توضع قبل الكلمات البارزة لاستقطاب وحشد الجمهور إليها. صحيح أن بعضها يعبر عن اهتمامات الناس ويجمعهم في قضية مشتركة.. غير أن الكثير منها بات تنطلق من دوافع شخصية مشوهة تدفع أصحابها لاستقطاع جملة يتيمة من كلام كاتب، أو مقطع من مقابلة مسؤول، بهدف قلب وتأليب الناس ضده.
ليعقبها نوع منتشر من التنمر وهو «الدرعمة» أي التربص بتغريدات أو منشورات الناس والتهجم عليهم بطريقة انفعالية أساسها سوء الفهم، وإمطارهم بتعليقات غاضبة وعشوائية لا تنتمي لمضمون التغريدة بل شخصية وسمعة المغرد.
ثالثاً.. الطقطقة التي قد تكون الأوسع انتشاراً وهي السخرية والاستهزاء بأسلوب مغلف بالظرافة والفكاهة.. من مظهر أو صوت أو إنجاز شخص ما، وصار مع الأسف ثقافة شعبية تشغل المجالس وتملأ أوقات الفارغ، على حساب آخرين ليس لهم ذنب سوى أنهم متواجدون افتراضياً.
رابعاً.. التنبيش والحفر في الماضي، بنية استخراج فضيحة قوامها كلمات اجتزأت من سياقها، أو تغريدات وصور يعود بعضها لسنوات طويلة، لم تعد اليوم تعبر عن شخصية وهوية الفرد، يقف عليها المتنمر بمطرقة القاضي.. مصدراً أحكاماً جائراً لا تعرف السياق أو تعترف بمرور الزمن وتطور الشخص وفكره وذوقه.. فالأفكار كما البشر تولد وتكبر وتشيخ وتموت.. لكنها لدى الكثير من المتنمرين تحاكم.. حتى بعد وفاتها.
قديماً، كان التنمر يتركز حصرياً في محيط البيئة التعليمية، دون أن يمس بيتك الآمن بسوء. ولكن اليوم مع سطوة مواقع التواصل الاجتماعي وتبنينا حياة افتراضية توازي حياتنا الواقعية بكثافة التواجد، وشبكة المعارف، بات من السهل أن يتعرض الإنسان للتنمر ليس فقط في المدرسة، ولكن أيضاً في سيارة العائلة أو في صالة المنزل، وعند استلقائه بمفرده في غرفة نومه، بل وحتى بحضور أقرب الناس إليه، دون أن يكونوا على علم أبداً بما يحدث.
واحد من كل ثلاثة ضحايا للتنمر قد تعرض لأذى ذاتي من جراء ذلك، وأقدم 1 من كل 10 على محاولة الانتحار. كما أن إثنين من الشباب الذين تعرضوا للتنمر لم يخبر أحداً أبداً بذلك، بدافع الخوف أو الحرج أو عدم الثقة بأنظمة الدعم، وآثر إغلاق حساباته تفادياً لرصاص كلماتهم الطائشة.