د.عبد الرحمن الحبيب
«تتوقّع دول أخرى أن تكون أمريكا دائماً بنكها.. الرئيس أوضح اليوم: ليس بعد الآن.» تلك تغريدة مستشار الأمن القومي الأمريكي بولتون، عقب الفشل غير المسبوق في إصدار بيان مشترك لقمة مجموعة الدول الصناعية السبع. وعندما اقترح الرئيس الفرنسي ماكرون بأن تتعاون مجموعة السبع حول «مشكلة الصين» التجارية، أجاب ترامب بأن الاتحاد الأوروبي «أسوأ من الصين» في التجارة.
يواجه التحالف الإستراتيجي الوثيق بين أمريكا وأوروبا الغربية تحديات جسيمة لم يسبق لها مثيل؛ فمنذ انهيار الاتحاد السوفييتي وزوال خطره المباشر على أمريكا صارت الأخيرة تنأى تدريجياً عن التناغم مع السياسات الأوروبية، وترى الأولوية للأهمية الاقتصادية مع دول شرق آسيا، يليها المخاطر الأمنية من روسيا. وتفاقمت الحالة مع الإدارة الأمريكية الحالية التي ترى أن القارة الأوروبية «العجوز» أصبحت عالة عليها سواء في حمايتها بحلف الناتو الذي تتحمّل أمريكا أغلب تكلفتها أو في الاتفاقات المجحفة بنظر الأمريكان التي تم صياغتها آنذاك تحت تأثير الخشية الأمريكية من الخطر السوفييتي.
فعلى مر العقود بعد الحرب العالمية الثانية كانت أمريكا تقدِّم تنازلات للأوروبيين من أجل المحافظة على جبهة موحَّدة لمواجهة السوفييت، لكن «ليس بعد اليوم»، فالأوربيون اعتادوا على الدلال، كما يقول الأمريكان! فمثلاً، في عام 1947، أثناء مفاوضات إنشاء منظمة التجارة العالمية وشروط المشاركة الأوروبية لخطة مارشال الأمريكية لإعادة إعمار أوروبا بعد الحرب، حدث خلاف حاد بين المفاوضين الأمريكان والبريطانيين بشأن الرسوم الجمركية، مما دعا الرئيس الأمريكي ترومان للتدخل والتنازل خوفاً من أن الصدع بين واشنطن ولندن سيستغله اليساريون من حزب العمال البريطاني والكرملين (بن ستيل، مدير الاقتصاد الدولي بمجلس العلاقات الخارجية الأمريكي).
حالياً، «نحن أمام لحظة حاسمة.. سيتعين على القادة الأوروبيين أن يحددوا خياراتهم..» كما قالت الخبيرة جوانين من مؤسسة روبرت شومان.. ففي مجال الدفاع، يقول ترامب بوضوح إن أمريكا لن تكون بعد الآن الدرع الذي سيحمي أوروبا بمواجهة روسيا، وأضافت جوانين أنه «يجب أن تتولى أوروبا زمام أمورها بالعديد من القضايا، بما فيها الدفاع». قبل ذلك بعام كانت أنجيلا ميركل، مستشارة ألمانيا، مدركة لذلك حين قالت: إن أوروبا لم تعد قادرة على الاعتماد على الولايات المتحدة، ويجب عليها أخذ مصيرها بيديها.
فما هو مستقبل العلاقة بين ضفتي شمال الأطلسي؟ قبل عام، قام مركز بيو للأبحاث باستطلاع خبراء السياسة الخارجية والأمن القومي والاقتصاديين عبر الأطلسي، إذ توقّع ما لا يقل عن ستة من كل عشرة خبراء أن العلاقات الاقتصادية والأمنية والدبلوماسية بين أمريكا وأوروبا ستواجه تحديات تعرقل توحّدها بفاعلية كما كان بالماضي مع ظهور إدارة ترامب. ووجدت نسبة أعلى في مسح جديد لـ373 خبيراً، بسبب شكوك شديدة حول الإدارة الأمريكية الحالية والخلافات حول مجموعة من القضايا.
أهم القضايا الخلافية تكمن في تخوف الأوروبيين من فك الارتباط الأمريكي عن أوروبا، وطريقة تعامل أمريكا مع روسيا، حين لا يعير الأمريكان أهمية إستراتيجية لجزيرة القرم، ولا يتفقون مع المبالغات الأوروبية حول خطر روسيا وخلافها مع أوكرانيا.. ويزعج الأوروبيون انسحاب أمريكا من التزاماتها الدولية وتخليها عن قواعد التجارة الحرة التي صاغتها بنفسها.. والأوروبيون غير راضين على وضع أمريكا لحواجز مع بقية العالم والتوجه نحو الداخل بينما تتصاعد القوى الأخرى.. ويواجه جدار ترامب المقترح على الحدود المكسيكية معارضة حادة في أوروبا، وكذلك بدرجة أقل منع مواطني بعض الدول ذات الأغلبية المسلمة من دخول أمريكا.. وأخيراً، أزعج الأوروبيين مشروع الاتفاقية «المتهورة» مع كوريا الشمالية. بشكل عام، ينتقد الأوروبيون سياسة أمريكا الخارجية التي تبدو لهم ازدراء للتعاون الدولي وخروج عن النظام العالمي الذي شكلته أمريكا بنفسها.
فماذا يمكن لأوروبا أن تفعل؟ يمكنها من الناحية التجارية الضغط على أمريكا فدول الاتحاد الأوروبي لها قوة اقتصادية كبيرة، لكن ليس في القضايا العسكرية والبيئية. تجارياً، يمكن البدء بإجراءات لدى منظمة التجارة العالمية، واتخاذ تدابير انتقامية على بعض السلع الأميركية، لكن عليهم أن يظلوا موحّدين سياسيًا وهذا ما لا يبدو حالياً. تقول ستيفاني فايس من معهد برتلسمان ستفتونغ الألماني «إذا لم يتمكنوا من التوصل إلى تسوية داخل الاتحاد الأوروبي، لا يمكنهم أن يكونوا لاعبين عالميين».
بالمقابل، أمريكا هي القوة الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية الأولى بالعالم؛ وعندما تنسحب من أية اتفاقية دولية فقد يعني فشل الاتفاقية، ومن هنا تكمن مخاوف الأوروبيين خشية رد فعل أمريكا من أية خطوة مضادة يقومون بها. ولعل القمة الأخيرة للدول الصناعية السبع بكندا تلخص المشهد، فقد «خرج الأوروبيون بشعور المذلة والارتباك بسبب الرئيس الأمريكي المصمم على المضي قدماً دون أن يعيرهم أي اكتراث..» كما ذكرت وكالة الأنباء الفرنسية.
خلاصة القول إنه فيما الأوروبيون بحيرة من أمرهم ولم يوحّدوا موقفهم، فإن الأمريكان مهتمون بالفوز بالحروب التجارية قبل أي شيء آخر، والرئيس ترامب هو رجل أعمال ومفاوض تجاري ماهر قبل أي شيء آخر.. والسياسة العالمية يحركها الاقتصاد والتجارة الدولية.. ويبدو حتى الآن أن كفة أمريكا هي الراجحة..