عندما يتأمل المسلم سرعة الأيام وتقارب الزمان؛ يدرك أن العمر قصير، وأن السعيد من عمَره بطاعة الله، وطلب جنته ورضوانه، وها هو شهر رمضان شهر الصيام والقيام شهر الطاعة والغفران قد قوضت خيامه، مضى رمضان، وطوى معه سجلات أحسن فيها أقوام وقصّر آخرون، مضى رمضان إما شاهداً لنا أو شاهداً علينا، مضى رمضان فما أسعد نفوس الفائزين وهناء المفلحين الرابحين!!، ويا خسارة على من فرط؛ فكان من الخاسرين، مضى رمضان ولسان حال المؤمن يقول:
أيها الشهر تمهل كيف ترحل؟
والحنايا مثقلات والمطايا تترجل!
كيف ترحل؟ هل عتقنا أم بقينا في المعاصي نتكبل؟
أيها الشهر تمهل أي فوز غير فوزك والأماني حين نقبل!
إن المسلم الكيّس يدرك أن العمل لا ينقطع، وأن الحزن على فراق رمضان يشحذ همته؛ لطاعة الله ومراقبته وحسن عبادته في كل زمن وحين والأعمال بالخواتيم، فليجعل من ختام شهره استغفاراً وتوبة وعهداً مع الله في الاستقامة على دينه والقيام بشرعه، وكان السلف الصالح -رحمهم الله- يجتهدون في إتقان العمل وتمامه، ثم يسألون الله القبول، وهكذا كان الصحابة -رضوان الله عليهم- (الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون) وعند الترمذي وابن ماجه عن عائشة -رضي الله عنها- سألت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن هذه الآية (الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة) قالت: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون ألا يتقبل منهم {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}.
وفي وداع رمضان حاسب نفسك -أيها المؤمن وأيتها المؤمنة-، واعقد العزم أن تودع هذا الشهر بمثل ما استقبلته من الإحسان والبر والطاعات، ولا تكن كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، وحافظ على ما كنت عليه من الطاعات وأعظمها الصلاة فلا حظَّ في الإسلام لمن ضيعها، والصوم لا ينتهي بعد رمضان، فدونك النوافل، أدرك منها ما استطعت، فالصوم جنة وحصن من الشياطين، لا تنقطع عن قيام الليل ولو بثلاث ركعات، التزم حزبك من القرآن:
طوبى لمن حفظ الكتاب بصدره
فبدا وضيئاً كالنجوم تألقاً
اجعل من رمضان تصفية لقلبك من الغوائل والشهوات والأهواء، وكُنْ ذا صدر سليم وقلب عامر بحب الله وطاعته والاستسلام لأمره، ولتكن علاقتك مع المسجد دائمة؛ فالمؤمنون عُمَّار بيوت الله فكن منهم، هذا هو الوداع الصادق والدمعة التي يعقبها توبة وأوبة وثبات على الحق تجعل من عمر المسلم بركة وتوفيقاً ولا يغادره رمضان أبداً.
أيا شهر الصيام فدتك نفسي
تمهل بالرحيل والانتقال
فما أدري إذا ما الحول ولّى
وعدت بقابل في خير حال
أتلقاني مع الأحياء حياً
أم أنك تلقني في اللحد بالي
فهذي سنة الدنيا وداعاً
فراق بعد جمع واكتمال
وتلك طبيعة الأيام فينا
تبدد نورها بعد الظلام
اللهم كما أكرمتنا برمضان فأكرمنا بالقبول فيه، واجعلنا ممن أدرك ليلة القدر وفاز فيها بالأجر، وأعد علينا رمضان أعواماً عديدة ونحن في أحسن حال في أمر ديننا ودنيانا وعمَّ على بلادنا وعلى الإسلام والمسلمين بالعز والتمكين والفلاح.