د. حمزة السالم
نصوص التشريع في الزكاة، هي أحد المواضع التي تُظهر إعجاز التشريع في قابليته لكل زمان ومكان بما ينفع مصالح الناس. فصياغة النصوص بهذه الطريقة العجيبة، والقدرة على فهمها من الرجل السيط بمجرد توافر تصور واقعها، لا يمكن أن تصدر إلا عن عالم بالغيب قادر على تطويع الأمور بـ»كن فيكون».
فالنص الشرعي، إذا ما أُخذ بمنطق الإنسان العادي، لا بمفهومه، فهو ظاهر الدلالة طالما كان الإنسان قادراً على تصور حقيقته. وحقيقة الشيء لا تُتَصور دون واقع محسوس أو ملموس. فلهذا لا يعاب الأئمة من أهل العلم في القرون الأولى عدم تأصيلهم لعلة لزكاة الذهب والفضة لعدم وجود تصور لديهم يكشف عن أسرار التشريع. وعدم وجود التصور نابع من عدم وجود واقع يتطلبه تَكَوْن هذا التصور، مع عدم توافر حاجتهم الدافعة لذلك. تمامًا كما لا نلام نحن اليوم بعجزنا عن تأصيل علة الزكاة في الإبل والغنم والبقر. فلا توجد لدينا حاجة دافعة ولا يوجد لدينا تصور عما قد يظهره الله من السنن الكونية وما قد يخلقه سبحانه من مستحدثات الأشياء.
والتقليد المحض في الفقه التي سارت عليه لأمة لقرون طويلة، على ما فيه من جناية على دين المسلمين وعلى عقولهم وعلى دنياهم، إلا أنه لا يُنكر ما كان فيه من مصلحة لحفظ الدين من التحريف والتغيير في أصله. والله هو العالم بعباده وهو المتعهد بحفظ الإسلام إلى أن تقوم الساعة. ولكن قد اقتضت حكمته تسيير الأمور على قواعد السنن الكونية وما خلق فيها من سنن اجتماعية وقواعد فطرية بشرية. ومن هذه السنن أن المجتمعات تكره التغيير فطرة، وتتمسك بالتقليد خلقة. وهذا الثبات قد أعطى المجتمعات الإنسانية فرصة زمنية لاستيعاب العلوم والتحولات الجديدة.
حتى إذا ظهرت حاجات ملحة وضرورات، دفعتها الحاجات للتغيير. فعندها تبذل المجتمعات الجهد لاكتشاف ما يدفع عنها الحاجة، وينقدح الفكر لديها لاكتشاف بعض من أسرار خلق الله للسنن الكونية. فلعل الله شاء تثبيت دينه وفق السنن الكونية. فنصر رسوله والقرن الأول وفق هذه السنن، ثم ركنت الأمة للدنيا والخمول وفق هذه السنن، ثم ستقوم الأمة عند توفر الداعي والحاجة فتجدد دينها. ولعل الله بعلمه الغيب يعد للأمة دورًا في هذا الدهر الجديد كما أنها قامت بدروها في الدهر المنصرم.
فالاقتصاد الحديث يختلف كليًا عن القديم. فاقتصاد اليوم قائم على مشاريع ضخمة معقدة ونموه قائم على مخاطرات استثمارية في أفكار شاطحة. فلو استصحبنا نحن المسلمين الحكمة القديمة الجديدة، التي تنص على أن الأحمق هو من يُشارك في تجارة لا يفهمها، والحصيف الذي يقول لا أدخل فيما أفهم فيه، لما كانت التمويلات لتتوفر قط للمشاريع الضخمة، ولجمدت أموال الناس في خزائنها، ولظلوا يعيشون الحياة البدائية. فالحاجة للتمويلات هي التي خلقت نظام السوق المالية الحديث. وهذا النظام يعمل وفق القوانين الكونية التي سنها الله، فالاقتصاد كالفيزياء والطب، لا يخرج أحد عن قوانينهما الكونية إلا ويفشل النظام أو يمرض أو يموت.