د. محمد عبدالله العوين
كانوا بهجة يوم العيد ورواءه وفرحه وابتساماته وحنانه وحلاوته وكعكه وضحكاته وانتظار إشراق صباحه المختلف المتلألئ بالبهجة الممتلئ بالزينة المحفوف بالبخور الممهور بنشوة ميلاد جديد للحياة؛ كأقحوانة تتفتح، أو وردة تزهر، أو سنبلة تثمر، أو عناقيد عنب تتدلى وحان قطافها.
صبيحة يوم العيد هم العيد، كأنهم ونحن في غلس الفجر بدؤوا ينسجون لنا حياة جديدة تتفتق مع أول خيط ملتبس بين الأبيض والأسود.
كانوا التودد والتورد والتجدد.
ليلة العيد لا تنام والدتي!
لم يكن لديها خادمة تكنس أو تغسل أو ترتب أو تطبخ أو تنفخ أو تملي عليها الأوامر، كانت تزين البيت وكأننا سنصبح على عرس!
تراجع مجلس الرجال، تقيم مسانده، تفرش سجادة جميلة مخبأة للمناسبات في وسطه، ترشه بالعطر، تدير مدخنة البخور فيه، هي تعلم أن هذا المجلس بعد صلاة العيد سيكون كل شيء في هذا المنزل بين داخل وخارج كبير وصغير قريب وبعيد، وأن أي تقصير في الاحتفاء بالزائرين الذين يستقبلهم الوالد سيكون مثار عتاب لا تود أن تسمعه، لذلك هي كالنحلة طوال نهار ما قبل ليلة العيد ثم ثلاثة أرباع تلك الليلة المحتشدة بأسرار فرح مدفون بين الترقب والانتظار والشعور بسعادة تتقافز بين عينيها وكأنها الوحيدة بين الناس في هذا الشارع المتزاحم المتراص ببيوت الطين التي لا يشرق صبح العيد إلا في بيتها قبل أي مخلوق، لا تنام من تلك الليلة إلا ثلثها الأخير، وقبل الفجر تتضوع إحدى غرف البيت برائحة القهوة المعتقة المتقلبة على أكثر من فوح والمبهرة بالهيل والزعفران وصحن زجاج مدور يشف عن تمر يتزين بالحبة السوداء، والوالد نفسه يستيقظ قبل ساعة من موعده المعتاد وكأنه يشاركها بهجة تولد الدقائق الأولى من صبح يوم مختلف. هم البهجة، لا؛ بل هم من يصنعونها لمن حولهم، وجه أمي ووقار أبي وتزينه وتسبيحه ونور وجهه المطمئن هو العيد. صلاة فجر صبيحة العيد ليست كأية صلاة في يوم عادي؛ فأكثر الحاضرين إلى المسجد تزينوا ولبسوا الجديد، وكأنهم يستعجلون العيد أو يخشون التأخر عليه، وفي طريق العودة بعد الصلاة ويدي قريبة من يده ومشيتي لا تسبقه وصمت متطهر يحف الطريق وشعاع نور خفي ينثر أرجه على الأبنية ومفارق الطرق، ليس هو نور الشروق المعتاد؛ فلم يحن بعد، فالوقت لا زال في عداد لحظات الفجر؛ لكنه نور يتبختر دواخل النفس يضيء الطريق والأبنية ويقرع الأبواب بسعادة ليس لها تفسير.
لا تتأخر يا ولدي، عليك أن ترتدي ملابسك الجديدة ريثما أحتسي بضعة أقداح من القهوة.
هو يحتسي قهوته وأنا أحتسي روحي الجديدة.
الثياب الجديدة التي أرتديها ليست إلا صورة لما ارتدته روحي من سعادة مفعمة بحنان وبخور وقُبل.
ذهبوا .. وذهبت قهوة صبح العيد وبخوره ودعواته وقبلاته وحنان لا يتفجر إلا من راحة يدها الطيبة ونور جبينه الوضيء.