وعى الرأسمال منذ منتصف القرن التاسع عشر أنه كنظام غير عادل في توزيع الثروة، لا بد وأن يدخل في أزمات تعصف به وقد تؤدي إلى زواله. ولذلك لجأ إلى عمليات «ترقيع» مستمرة ليعيد إنتاج نفسه. وأول ما لجأ إليه الرأسمال في ذلك الوقت هو: تحويل الجيش والقوات المسلحة الأخرى من مؤسسات للدفاع عن «الوطن» إلى كيانات حامية «لطغمة» من الرأسماليين «ضد» بقية أبناء «الوطن». بيد أن الترقيع ليس إلا حلاً مؤقتاً، حيث إن الاحتقان الناتج يؤدي إلى انفجارات اجتماعية وحراك ثوري قد يشمل عناصر القوات المسلحة أنفسهم!، إذن لا بد من حلول «أعمق» من الترقيع تضمن للرأسمال استمراريته.
خلال الأزمة الكبرى في العشرينيات من القرن الماضي التي كادت أن تطيح بالنظام الرأسمالي في أوروبا والعالم، كان ضرورياً أن يجد الرأسمال حلاً «اقتصادياً» للخروج من تلك الأزمة.
إذا كان الترقيع قد أدى إلى تغيير البنية الاجتماعية الأساسية للبلدان الرأسمالية التي أنشأها الرأسمال ذاته، فالحلول الاقتصادية تؤدي إلى تغيير بنية النظام الرأسمالي، وتتحول الأزمات إلى مآزق أو «كوارث»! ... كيف ذلك؟
ما يميز النظام الرأسمالي عن الأنظمة التي سبقته من الناحية الاجتماعية هو: إلغاء التفرد بالسلطة وتوزيع السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية والإعلامية والدينية وغيرها، ثم الفصل بينها وهو ما يسمى «علمانية». أما استخدام تلك السلطات لحماية «طغمة» من الرأسماليين فقط، فهو إعادة إنتاج التنظيم الاجتماعي القديم، أوالتفرد السلطوي كما كان في العبودية والإقطاع وما قبلها. وإذا كان فلاسفة عصر النهضة والتنوير، مثل مونتسكيو وجان جاك روسو وغيرهما، قد نادوا بإنشاء المؤسسات الدستورية والبرلمانات والهيئات القضائية وغير ذلك، فهو من أجل تنظيم اجتماعي جديد يقصي الأنظمة القيصرية ويحرر العبد والفلاح من قبضة السيد ومالك الأرض، كي يتيح الفرصة لانطلاق التنظيم الاجتماعي الرأسمالي الذي كان ثورياً قياساً بسابقه. ولم يخطر ببال أقطاب الثورة البرجوازية أن الرأسمالية ستنقلب على ثوريتها!، وتتخلى عن إزاحة الأنظمة الإقطاعية وما قبلها، وتعيد تنظيم المؤسسات التي تتميز بها لتكون تلك المؤسسات بمثابة «جلاوزة» لقمع أي مطالبة بتوزيع عادل للثروة.
إذا كان الانقلاب على المؤسسات السلطوية قد أعاد إنتاج التنظيم الاجتماعي في كل بلد رأسمالي على حدة، فالانقلاب الاقتصادي قد أطاح بالأسس الجوهرية للنظام الرأسمالي في العالم كله!.
ما قبل أزمة العشرينيات كانت النظرية الكلاسيكية في الاقتصاد الرأسمالي قائمة على أساس مفهومين هما: أولاً (من غير المحتمل حدوث قصور في الإنفاق)، وثانياً (حتى لو حدث قصور في الإنفاق فإن «تعديلاً» في «الأسعار والأجور» يحدث ليمنع انخفاض الإنفاق الكلي من أن يؤدي إلى انخفاض «الناتج الحقيقي والتوظف والدخل»)، ولذلك تنادي النظرية الكلاسيكية بالسوق «الحرة».
النظرية الكلاسيكية تعتمد على التحولات الاجتماعية طوال التاريخ، حيث إن الانتقال من تنظيم اجتماعي إلى آخر يكمن في زيادة الناتج الاجتماعي للثروة أوما نطلق عليه في عصرنا «الناتج القومي». وهذا الناتج كان في النظام الإقطاعي أعلى منه في الاقتصاد العبودي أو الرعوي، وفي النظام الرأسمالي أعلى منه في النظام الإقطاعي. ولكن الإنتاج في الرأسمالية يعتمد على العرض والطلب، وبالتالي من الضروري توفر «التوازن» بين الثروة الناتجة والإنفاق، أي بين كمية الإنتاج من السلع المصنعة والقوة الشرائية لدى منتجي تلك السلع، ومن خلال توفر فرص العمل والأجور «المناسبة» لشرائها. وبالتالي ترتفع أجور العمل الفيزيائي والذهني «تلقائياً» حسب النظرية الكلاسيكية كلما ازداد الإنتاج!.
الذي جرى عملياً في البلدان الرأسمالية كلها أن العمال والفلاحين والموظفين، خاضوا نضالات مريرة ودموية من أجل رفع أجورهم وتثبيت إجازاتهم الأسبوعية والسنوية ونظام التقاعد وغير ذلك، وهم مستمرون حتى يومنا هذا في تضحياتهم من أجل حماية مكتسباتهم تلك التي لم تحدث تلقائياً!. أي تزايَدَ إنتاج السلع وانخفضت الأجور، أي أن ما يطلق عليه «السوق الحر» هو في الواقع ليس «حراً»، مما هيأ الظروف الموضوعية لقضاء النظام الرأسمالي على نفسه بنفسه، ثم دخل الرأسمال في أزمة العشرينيات التي كادت أن تودي بنظامه. أما ما بعد ذلك يحتاج إلى بحث آخر ولكن ليس «حراً».
** **
- عادل العلي