من نعم الله العظيمة التي أنعم الله بها على أمة الإسلام -أن جعل لها عيدين في السنة عيد الفطر المبارك- وعيد الأضحى المبارك ونحن الآن بصدد عيد الفطر المبارك الذي أطل علينا هذه الأيَّام المباركة بعد نهاية سيد الشهور -شهر رمضان المبارك- لا شك أن هذه المناسبة الجليلة والشعيرة العظيمة تدعو إلى التواصل والتقارب والتسامح هذه الأيَّام المباركة بين أفراد المجتمع الواحد وذلك بنشر المحبَّة والمودَّة والتآلف والتأخي التي تنهي القطيعة والخصومة وذلك عن طريق فتح صفحات جديدة وتتجلى هذه النعم في سرور القلب, واستقراره, وهدؤه, فإن في سروره ثبات للذهن وجودة للإنتاج وابتهاج للنفس وهي الصور التي كنا نشاهدها بكل وضوح خلال شهر رمضان المبارك والتي تبين للجميع بجلاء أثر هذا الصّيام على الفرد والمجتمع وأن الخير يعم الجميع ويصل إلى الجميع وأن أنوار هذه المناسبة السعيدة تشرق على كافَّة الوجوه ذو القلوب الطيبة حتى التي تؤلف بينهم وتخرجهم من دائرة الفرقة إلى دائرة التآلف ومن الغفلة إلى دائرة التراحم والتواصل والترابط ومن هنا نرى كيف أن الصيام جعل النفس تصفو في رحابة وتنبض مشاعره بالخشية من الرحمن وتهفو إلى خالق هذا الكون العظيم شيباً وشباباً ورجالاً ونساءً.. فقد أبدع الله سبحانه وتعالى هيكل المرء واحسن خلقه واحكم صنعه فجعله مادَّة تعتلج فيها شتَّى الطبائع وتصطبغ بألوان الخير والشر، كما سلك فيه روح من أمره فهي سر الحياة ومظهر الوجود وهي حقيقة المرء وجوهره.
وعندما يتوجه القلب إلى طريق الخير والبر والإحسان إلى النَّاس والعمل بهما والدعوة إليهما ومحاسبة النَّفس عن كل ما يأتي فإنها تتهذب روحه ويصبح المرء منبعاً للخير على نفسه وعلى بيته وعلى مجتمعه ويعيش عيشه هادئه كلها محبة ووئام وتعاون وسلام وما أجملها من حياة عندما تتقارب القلوب بين أفراد الأمة ومع إطلالة هذه الشعيرة العظيمة فإن ابجديات السعادة تتجلى في البهجة والفرحة والسرور حيث إنها تشع في الوجوه محدثة في النفس البشريَّة دوياً من الإشراق والبسمة والانشراح والود والألفة لأنها تحب التنويع وتستملح الجديد وهي فرصة سانحة للقاءات عدة حيث يستعيد فيها المسلمون قاطبة علاقاتهم ويؤكدون فيها روابطهم بعد نبذهم دواعي الحقد والحسد والكراهيه والنميمة والغيبة والوشاية التي تفسد شتَّى العلاقات الاجتماعيَّة فإن سعادة المرء قدرته على كسب النَّاس واستجلاب محبتهم وعطفهم كما قال إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ}.
لأن جميع العبادات في الإسلام لها غايات وأهداف ولها حكم وأحكام، حيث إن العيد له منافع عديدة روحية ودنيوية وأخروية.. ومن المنافع الدينية اجتماع المسلم بإخوانه المسلمين صباح ذلك اليوم في المساجد والمصليات لتأدية صلاة العيد في كافَّة أنحاء المعمورة من العالم وتناول طعام وجبة العيد في المنازل والمساجد والميادين احتفاءً وفرحة بهذه الشعيرة العظيمة إلى جانب تبادل عبارات التهاني والتبريكات فقد لامست هذه الأمور الهادفة والعبارات الراقية شغف القلوب المسلمة.. والأمر الأساسي من تلك الشعيرة الجليلة إشعار كل مسلم ومسلمة على هذه الأرض المعمورة بأنه إنسان فاعل في هذا المجتمع الكبير.
ومن دروس تلك المناسبة التربوية تذكير الفرد المسلم على وجه الخصوص بأن التقارب والتواصل ونبذ كافَّة الخلافات بشتَّى أنواعها وصورها وأشكالها في هذه الأيَّام المباركة السعيدة شيء يطمح إليه كل مسلم ومسلمة على حد سواء فالعيد يغرس في النفوس المؤمنة على حد سواء وحدة الأمة وتكاتفها وترابطها وقد جلبت النفوس منذ قدم التاريخ على تلك الأمور من دون تمييز بين هذا وذاك الكل سواسية، كما قال نبي الرحمة محمد صلوات الله وسلامه عليه (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) وشبك بين أصابعه. متفق عليه وقال: (مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) متفق عليه.
وقد امتلأ قلب المرء إيماناً وقوة ويقينا بعد هذا الشهر الفضيل وقد عاد إلى مجتمعه صافي الذهن صافي الفكر صافي النفس وقد تغيرت عاداته وأقواله وأفعاله وأعماله التي كان عليها في السابق وقد رجع وكأنما خلق خلقاً جديداً, فالصيام عبادة عميقة الأثر في حياة المسلم حين يعيشه كما كانت تعيشه الأجيال الأولى التي مارست تلك العبادة بمعناها الشامل العميق.
إنها عبادة تشمل في طياتها كل العبادات بتركيز واضح على عبادة التوحيد بالذات.. أنه إخلاص وتجرد إلى الله.. تجرد من كل ما تتعلق به النفس في هذه الحياة الدنيا من مأكل ومشرب وقيل وقال.. تجرد من ذلك كله إلى خالق هذا الكون العظيم ومن أجل ذلك يتدرب المسلم على حياة الانضباط، حيث إن النفس المطمئنة هي التي تصل إلى درجة من الكمال والنضج في تحقيق توازن الذات فتجد السكينة والصفاء والراحة النفسية في التحكم والتقويم والترشيد والروحية عن طريق تقويم السلوك.
وبذلك يستطيع الإنسان أن يتحكم في عملية إشباع دوافعه ويقضي على نقاط الضعف في الإرادة فيقوى هذا المنبه الداخلي لديه فالإسلام مدرسة تربوية عظيمة يرتفع بها المسلم إلى آفاق أرقى وأعلى.. يتعلم بها بذل الجهد والعطاء والمثابرة والصبر.. ويتعلم بها أن يعيش في عبادة دائمة.. ويتعلم بها أن يكون لطيفاً مع إخوانه المؤمنين رحيماً بهم.. ويتعلم بها طريقة كبح جماح عواطفه وإلجام نزواته.. ويتعلم بها دروس العبادة لله.. ويتعلم بها كيف ينفق في سبيل الله دون مقابل.. ويتعلم بها كيف يعظم ما عظمه الله.. إنها دروس تربوية سامية ولكنها في حساب النفس البشرية تعتبر حدث هائل وعميق يُعدُّ من قواعد التربية السامية.. ومن أصل إسلامي متجذر وخلق اجتماعي رفيع المستوى يتمثل في إتاحة الفرصة للجميع في تبادل عبارات المحبة والمودة والأخوة الصادقة.. فهذه دروس تربوية للمسلم في عدم الخوض فيما لا طائل منه ولا فائدة من ورائه, فالواجب على كل مِّنَّا أن يعمل بما يناسب هذه المناسبة العظيمة والأعراض عن الدنيا وزخارفها والترفع عن كافَّة السلوكيات التي لا تليق بالمسلم الحق والصلة الدائمة بالله عزَّ وجلَّ والبعد كل البعد عن اللهو والعبث والخصام والجدال بقدر الإمكان حتى تكتمل صورة هذه الشعيرة العظيمة.
وختاماً أرفع عبارات التهاني وأزكى عبارات الأماني إلى قائد مسيرتنا وباني نهضتنا خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود -حفظه الله ورعاه وسدد على دروب الخير خطاه- وإلى صاحب السمو الملكي الأمير/ محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع وإلى الأسرة المالكة الكريمة وإلى الشعب السعودي الوفي.. سائلاً المولى -عزّ وجلّ- أن يعيده على بلادنا وعلى خليجنا العربي والأمتين الإسلامية والعربية باليمن والبركات إنه سميع مجيب.