محمد المهنا أبا الخيل
في مطلع شهر أبريل عام (2003م)، سقطت بغداد بيد الغزو الأمريكي وسقط معها نظام حكم العراق بالحديد والنار عدة عقود من الزمن، خلالها تمايزات مكونات المجتمع العراقي بين مأجور ومأثور ومقهور، وبعد سقوط النظام تباين العراقيون حول كل أمر وتقاتلوا على كل شأن، وأصبح العراق بؤرة الخلافات ومستنقع الصراعات بين الطوائف والعشائر والأعراق لسنوات عديدة كان من آثارها، قبس من جحيم العراق أوقد حرائق ما سمي بالربيع العربي في عدة بلدان عربية استهلتها تونس عام (2014) ثم مصر واليمن وليبيا وتلتها سوريا. كان ظاهر ذلك الغليان الشعبي أنه ثورة على الطغيان والأنظمة المستبدة وباطنه صراعات استبطنها ذوو الأغراض وأعداء الأمة وأوقدوها بحطب الخلافات الدينية والتوجهات السياسية واستحضروا صراعات التاريخ لتقود صراعات الحاضر.
منذ فترة وأنا أبحث في التاريخ وأتتبع الأخبار وأسبر التحليلات في محاولة لفهم ما يجري في منطقتنا العربية بصورة عامة وما يجري في منطقة مشرقنا العربي وما يحيط به، أحاول أن أجد تبريراً عقلياً لهذه الصراعات ومشتركاً أعظم بين الأحداث والشقاقات وأستقرئ مستقبل تلك ومصاراتها، كثيرون يختزلون ذلك بأنه تمظهرات ومآلات لأزمة الصراع مع إسرائيل وآخرون يرون أن بروز التصور الإيراني لواقع الشرق الأوسط السياسي والمدفوع بنظرية (ولاية الفقيه) هو عامل تحفيز لهذه القلاقل لكسب سيطرة فارسية بحجة دينية، والبعض يرى أن فشل تركيا في التوجه غرباً نحو أوربا أجبرها على تغيير وجهتا نحو العرب لتحقيق ريادة جديدة في المنطقة، ولكن بعقلية (العصملي) والذي كان يعتمد سياسة (فرِّق تسد) حين كان يحكم العرب في سالف الزمان، ومع ذلك يتفق معظم السياسيين والمحلّلين العرب على أن أمريكا ومعها بعض الأوربيين هم مقاولو خراب ودمار الشرق الأوسط من أجل صياغة جديدة لاستعمار شعوبه وسلب خيراته وتكريس التفوق الغربي فكراً وسياسةً واقتصاداً على الغريم التقليدي والتاريخي للغرب والمتمثّل في العرب والمسلمين.
معظم المحلّلين السياسيين العرب يغفل أن وقود الصراعات والقلاقل في منطقتنا العربية هم أهلها وهم من يشعلها بخلافاتهم المذهبية والعشائرية وأطماع بعضهم في التوسع على حساب البعض الآخر أو اعتقادهم بمشاع الثروات والمنافع التي ظهرت في العصر الحديث وأحدثت انقلاب في مفاهيم التحضّر والمدنية. فالمشرق العربي منذ فجر التاريخ مثل بؤرة جذب اهتمام العالم القديم وكان لانبعاث الإسلام من جزيرة العرب تكريس لذلك الجذب البؤري لقرون حتى أصبح ذلك المشرق العربي معترك حقيقي لكل طامع بمجد أو تأثير أو ثروة، وأصبح ذلك المشرق خليط من الأثنيات والأعراق وتمثّلت فيه كل الأديان والمذاهب والفلسفات وبرزت منه النظريات والتصورات حول العلم والحياة والإنسان، كل ذلك التراكم الثقافي الهائل تبلور اليوم في صيغة خلافات وتباينات لا تحتكم لقواعد تضبط تفاعلاتها وتجاذباتها، فأصبح الصراع هو البديل وهو الحكم، حيث يصبح الحسم للأقوى هو النتيجة الطبيعة لذلك، على أن التدخلات الخارجية لا تترك الأقوى يحسم ولا تدع الضعيف ينهزم فيستدام الصراع وتستمر المعاناة والألم.
كانت الصراعات التي تحكم المكونات الاجتماعية شأن قادة المجتمع وشيوخه والناس تبع لقادتهم يتصرفون، فإن تغاضبوا تقاتلوا وإن تسامحوا تهادنوا، ولكن في عصرنا الحالي عصر الاتصالات السريعة وعصر التواصل الاجتماعي الشبكي وعصر المعرفة الآنية، بات الفرد متمكن من وسائل رخيصة بحيث أصبح للقيادة والتأثير الاجتماعي شخوص جدد، وأصبحت الشعبوية هي الخطاب الذي يؤثّر في الناس وباتت الصراعات السياسية تشتعل بتغريدة وبات ميدان المواقف السياسية وسائل التواصل الاجتماعي، هذا الواقع الجديد هو الذي سيشكل سياسات الدول وعلاقات الشعوب في المشرق العربي في المستقبل، فهل ثمة عقل عربي سيتشكل من هذا الزخم السبراني يكون أقدر على صياغة علاقات عربية بينية رصينة تحقق الأمن العربي المشترك وتمهد لنهضة تنموية شاملة؟!