«الجزيرة» - أحمد المغلوث:
جلس راشد في مقعد الاستراحة الذي فرشت عليه «دواشق» بيضاء مزدانة بالورود الوردية والحمراء، وأوراقها الخضراء التي طرزت بالخيوط الملونة، وراح يداعب هاتفه الذكي باهتمام وهو ممسكٌ به بيده اليسرى. أما يده اليمنى فكان أصبعه السبابة يفرك به شاشة الهاتف تارة، وتارة أخرى يفتح به أحد حسابات مجموعة القروبات التي وجد نفسه مشتركًا فيها. كنا قد اجتمعنا بعد صلاة التراويح في استراحتنا كالعادة، نشرب الشاي والقهوة، ويناظر بعضنا البعض ونحن نشاهد أخبار التاسعة. وراح بعضنا يعلق على نجاح قمة مكة المكرمة التي كان وراءها مبادرة عظيمة من مبادرات خادم الحرمين الشريفين، والتي جسدت معاني قيادة الملك سلمان للأمة العربية، وأنه بلا منازع زعيمها، وفي الوقت ذاته حكيمها. فها هي حكمته التي جسدتها مبادرته التاريخية في جمع كل من الإمارات والكويت والأردن في قمة استثنائية، استضافتها المملكة لدعم المملكة الأردنية الشقيقة للمحافظة على استقرارها وأمنها، ولدعم اقتصادها الذي كان يعاني من تحديات عدة، جعلته يختنق من أزمة اقتصادية حادة. وهكذا، ومن خلال هذه القمة، استطاع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز - حفظه الله - والأشقاء في الإمارات والكويت الوقوف جنبًا إلى جنب مع الأردن الشقيق للمحافظة على استقراره وأمنه، ودعمه اقتصاديًّا من خلال حزمة مليارية. كنا جميعًا نتابع نتاج القمة الناجحة ما عدا صاحبنا راشد؛ فكأنه يعيش في عالم آخر.. كرس جُل وقت الاستراحة في مداعبة «هاتفه»، ولم تكن نجاحات قمة مكة، القمة التي ترددها الأخبار، وتعليقات أعضاء الاستراحة، تهم «راشد» في تلك الساعات التي اجتمعنا معه فيها.
لا هي ولا غيرها من أمور الحياة المهمة أو توافهها؛ فقد كان مشغولاً من رأسه حتى أخمص قدميه. وكان البعض منا يختلس النظرات إليه وهو لا يدري أننا نتابعه عن قرب. وكنا نشفق عليه أنه بات مدمنًا على «الهاتف الذكي»، هذا الإدمان الذي بات يعاني منه مئات الملايين من البشر.. فجمعت شجاعتي، وجلست بجواره، وسألته بصوت خفيض: «ما شاء الله عليك، ما تتعب من مطالعة ما يرسله لك أعضاء القروبات؟ ترى ما بقي وقت على صلاة القيام وأنت شاغل نفسك بجوالك». عندها انتفض، واعتدل في جلسته، ووضع جواله جانبًا، وقال: «والله قلبي يتقطع، ودي أشاهد الأخبار، وأبدي رأي فيما تثيرونه من مواضيع وحكايات، كم أنا بشوق لمعرفتها، أو الخوض في أعماقها، وأن أدلو بدلوي فيها كما يقولون، لكن - الله يهديهم - بعض أعضاء القروبات راحوا يرسلون لي من بداية رمضان مواضيع دينية، وأدعية محببة، وفيديوهات.. لا أستطيع الفكاك منها، ومن القيام بإعادتها للمئات من الأشخاص الذين أعرفهم، والذين لا أعرفهم؛ فبعضهم - الله يهديه - يكتب في آخر النص [طالبك بالله إنك حال ما تنتهي من الاطلاع عليها إرسالها لكل من في القروبات، وحتى من تعرف من أصدقاء ومعارف، ولا تفوت نفسك من الأجر والثواب في هذا الشهر المبارك]. وآخر كتب يقول: [سألتك بأسماء الله الحسنى أن تعيد إرسالها لمن تعرف، ولمن يعز عليك]. وأنت تعرف أن الذين أعزهم كثيرون، ولولا الحياء لأرسلت لكل من لديه جوال. أحد يعاف الأجر والثواب في شهر الخير؟!». وأضاف وهو يمسك أصابع يده: «صدقني يا أبا عبدالله. للتو واحد مرسل لي دعاء يحلفني فيه بالله أن أعيد إرساله». وتوقف ليأخذ نفسًا عميقًا، ثم أردف: «والله إني تعبان، وفي الوقت نفسه خجلان. ما أقوم بواجب الإعادة لمثل هذه الرسائل. علمًا بأنها - ولا أخفيك - بعضها سبق أن أرسل لي مثله في العام الماضي». قالها باستياء. واستطرد: «مع ذلك أشعر بأني في موقف حرج؛ لا أستطيع أن أخرج من عضوية القروبات في الواتساب». فقلت له في لهجة أسف: «ولكن إذا أنت لم تقاوم ظاهرة الرسائل التي من هذا النوع، والتي يضعك أصحابها في [الكورنر] فسوف تخسر وقتك». فرد بإيمان وثقة وهو يتساءل: «ما هو الحل في نظرك؟». قلت: «الأمر بسيط: استعمل جوالاً آخر، لا يعرف رقمه إلا أهلك ومن يعز عليك. وجوالك هذا اجعله نسيًا منسيًّا. وبعدها سوف تجد وقتك بات ملكك، ولا واحد يحلف عليك تعيد ما صوره من مشاهد وحكايات وعباراتمكررة.. عفا عليها الزمن».