مَن منّا لم تتقاذفه شطئان الحياة وأعاصيرها، ولَم يتأثر بِـ صراعها، ملذاتها، وتقلُباتها!، فُطرنا على حب البقاء والبحث عن رغد العيش ورفاهية القلب؛ فَـ أفنَيّنَا أعمارنا نلهث وراء شهواتِ النفس ومبتغياتها، نركض يمنة ويسرة، كما لو كنّا في سَبَق؛ الفائز فيه مَن يصل إلى رغباته أولاً ويحصد جُلّ ما يجد من ملاذ الدنيا، ولا يأبه إذا خسر أثناء ذلك مبادئِه ومعتقداته، أما عن أعراف المجتمع وعاداتِه فحدِّث ولا حرج.
مَن يريد ثوباً من الدين فصَّلَ له واحداً على قياسِه، ومَن ينادي بالديموقراطية جلادٌ في حد ذاته، وهؤلاء ممن يتغنون بالحرية دفعوا ثمن شعاراتها عبودية أفكارهم، تَعَلْمَنّا وفصلنا الدين عن الدنيا؛ وتالله إن كنّا نعي سنعرف أن الدين دنيا والدنيا بجُلِّ ما فيها من علمٍ وسعيٍ وعمل دين وعبادة نؤجر عليها، تأسلمنا وأصبحنا مسلميّ هوية، تعصْبنا وتجزأنا وقيدتنا الطبقات المجتمعية، ببساطة أخذنا من كل شَيْءٍ سيئَهُ، وأضحينّا إن صحَّ تعبيري قطيعٌ من البشر؛ يبدأ وينتهي يومه على نفس المنوال، والضمائر في سبات عميق لا عزاء لها .
إن أخذنا ما نريد تهللت وجوهنا وسكنت جوارحنا، وقلنا: هل من مزيد !، وإن تأخر الرزق رحنا نشكو ونتأفف، وإذا أصابتنا ضراء بكَيّنا وتباكيّنا، وإن سُلبنا ما نرغب نضجر ونتسخط، نريد أقداراً طوّعَ إرادتنا، نتصارع على جنة في الأرض وأهملنا فردوس السماء، {نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ} حقٌ قوله سبحانه، بالنظر إلى ما وصلنا إليه وعلى أي حال صرنا فصدق الله العظيم.
ماذا إن زهدنا الدنيا، واقصد هنا الوسطية في ذلك، وليس البعد عن المصالح ومقومات العيش؛ وإنما الانصراف عن الجشع والسخَط، النفاق والحقد وكل أمراض القلوب وأفات العصر، فَـ نُحَّكِم الضمائر، ونضيء البصائر، بعقيدةٍ مستنيرة، وفطرةٍ مستقيمة، ودينٌ حاضر، لا نُنَحِيهِ ولا نغفل عنه، ونترك المُلك للمالك يدبره كما يشاء.
النور يعقبه ظلام، والحياة فناء يَليها موت، والقبور مرحلة محتومة، وما بعدها خلود، وكلنا الآن مخيرون، فإما عملٌ طيب يشفع، وإما ذنبٌ يُذِل صاحبه ولا ينفع، فَـ لنعمل قبل أن يأتينا اليقين.