عبدالعزيز السماري
في تاريخنا الطويل استخدم المؤرخون صفة العدالة للتفريق بين حقبة سياسية وأخرى، فيقال الخليفة العادل أو الفاروق، لكن ذلك أيضاً يعني أن العدالة في تاريخنا السياسي ارتبطت في حقيقة الأمر بشخصية الحاكم، وليس بالمؤسسة التنظيمية للحكم.
ولو استعرضنا التاريخ السياسي العربي في النصف الثاني للقرن الماضي، لاتضحت صورة الخلل في أنظمتها السياسية، التي كانت مبنية على أحادية مطلقة، ويحكمها الشك والخوف، وكان ذلك سبباً لدمار بعض الدول، وخراب أرضها، وفساد رعيتها، وقد كشفت فترة الخريف العربي الأخيرة مدى تشوه الوعي السياسي في العقل العربي.
فالحل العدلي مازال يأتي من خلال الفكرة الأيدولوجية الأحادية، أو عبر الحزب السياسي الحاكم بأمره، وهو ما يعيد نفس المتلازمة التاريخية في دوراتها العصبية المتوالية، التي تقوم على تقسيم المجتمع إلى موالين وأعداء، وهو ما يفتح الأبواب للمؤامرات والتآمر ضد الآخرين.
هذه الرؤية الضيقة كانت خلف الكوارث التي لحقت بدول كانت تعيش في الاستقرار، فدولة مصر على مختلف الأصعدة انتكست بعد ثورة العسكر على النظام الملكي الذي كان يقدم حكماً سياسياً نموذجياً في ذلك العصر، لكن الانقلاب العسكري أدى بالبلاد إلى الكارثة والممثلة في حكم الشخص الذي تنصهر فيه مختلف القيم، وبالتالي يتحول إلى رمزية قاتلة، كانت نهايتها نكسة وأجواء سياسية قادت إلى صعود أجنحة التطرف والغضب والأحادية المبنية على الطائفة في الظاهرة الإخوانية.
كان النظام الملكي قبل الثورة العسكرية يقدم حكماً مؤسساتياً شبه مكتمل، وفي صورة أقرب لمفهوم العدالة التي تقوم على الإنصاف وإعطاء كل ذي حق حقه، مع مراعاة مبدأ الاستحقاق، واعتبار التفاوتات الموجودة بين الأفراد، إما لمكافأتها والتشجيع عليها أو للحد منها، وقد كان التنوع السياسي والتعددية مجالاً خصباً للتميز، وانعكس ذلك على الاقتصاد، الذي كان مزدهراً في زمن الحكم الملكي، بينما تدهور إلى أدنى مستوياته تحت حكم العسكر.
كان تلك المفاهيم المطبقة أثناء الحكم الملكي في مصر أقرب للمفاهيم العصرية للعدالة المنصفة، كما تصورها الفيلسوف الأمريكي المعاصر راولز، التي تتشكل داخل نظام سياسي عادل، وقائم على التوافق بين المواطنين الأحرار، لضمان العدالة والخير للجميع.
تقوم هذه النظرية على مبدأين أساسيين هما: المساواة في الحقوق الأساسية كالحريات، والشرط الآخر اللا مساواة في النواحي الاقتصادية والاجتماعية، التي يجب أن تقوم على شرطين أساسيين، هما تكافؤ الفرص من جهة، وضمان أكبر قدر من المنفعة لأعضاء المجتمع الأكثر حرمانا من جهة أخرى.
ينتج عن ذلك استفادة الجميع من خيرات المجتمع، وإحساسهم بالعدالة الذي يتجلى من خلالها احترام المؤسسات، وبالتالي قبول سلطتها، والاقتناع بأنها تخدم مصالح الجميع، ولذلك يسعى الجميع، كرد فعل إيجابي، إلى الحفاظ على نظامها واستقرارها مهما طال الزمن.
كانت الملكية في مصر راعياً للتعددية وللاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بينما كان من كوارث الحقبة الناصرية أن غرست الأحادية في العقول، ثم أسست لمفاهيم التخوين والإقصاء للآخرين كعقيدة سياسية تقوم على الحزبية العمياء، التي أضحت بعد ذلك نموذجاً يُحتذى به في الأنظمة السياسية العربية في تلك الحقبة، وقد نحتاج إلى عقود عديدة من أجل التخلص من أثارها وأمراضها!