ياسر صالح البهيجان
الفنون بطبيعتها ذات سمة ديناميكيّة تفرض على المجتمعات الحديثة مسايرتها لتتمكن من الارتقاء بحسّها الفنّي، وما الفن إلا انعكاسًا لمدى وعي الشعوب وقدرتهم على تجسيد واقعهم ومستقبلهم باستعمال الأدوات الفنيّة المتاحة. والفنون أصبحت دليلاً على نمط حياة المجتمع وتحدد دوره في النهضة البشرية برمتها، إذا ما علمنا بأن الفن تعبير عن ثقافة إنسانيّة نبيلة تنتصر للخيال تارة، وتكمل جمال الواقع تارة أخرى.
الفن بهويته الكلاسيكيّة بات جزءًا من الماضي الإنساني، منذ أن بزغ فجر التكنولوجيا الحديثة، والتي أنتجت بدورها ما يُعرف اليوم بـ«الفن الرقمي» الذي يستعمل التكنولوجيا الرقمية كجزء أساسي في عملية الإبداع، أي أنه يُعد حالة تطوّر من الفن اليدوي التقليدي، واستفادة قصوى من منجزات التقنية الحديثة لإنتاج أعمال فنيّة أكثر جودة بفضل ما تتيحه التقنيات الحاسوبية من خيارات لم تكن متاحة في الأشكال الكلاسيكية للفن.
وتكمن قوّة الفن الرقمي في اندماجه مع مصطلح فنيّ آخر وهو «الفن التفاعلي»، إذ يسمح هذا النوع من الفنون بإمكانية تفاعل المشاهدين حسيًا مع العمل الفني، ما يجعل تأثير الفن أكبر على المجتمع، لأنه لا يكتفي بمجرد إحداث الدهشة العقليّة كما في الحالة التقليدية، وإنما يتحوّل المتلقي إلى منتج للمعنى الفني حسب طريقة استقباله للعمل واستجابته مع حركاته وسكناته.
ويشمل الفن الرقمي كذلك الرسوم المتحرّكة، والمؤثرات البصريّة، والرسم الرقمي، والموسيقى الإلكترونية، والتصوير الرقمي، وكذلك ما تمنحه أجهزة الحاسوب من إمكانيات التعديل والإضافة كما في برامج المونتاج المتطوّرة والإخراج السينمائي، وما ذلك إلا نماذج يسيرة من الفنون الرقميّة التي بالإمكان توظيفها لأحداث نقلة نوعية في الفن الوطني.
هذا النوع من الفنون الحديثة لا يمكن أن يتأسس داخل أي مجتمع دون جهود حكوميّة حثيثة لإنشاء بنية تحتية متينة تتيح للموهوبين إمكانية استكشاف الأبعاد التكنولوجية في الأعمال الفنية، وهو ما يفرض على وزارتي التعليم والثقافة تأسيس مراكز متخصصة تُعنى بالفنون والإبداع الرقمي، ويجري خلالها تنفيذ برامج تدريبية متطورة يشرف عليها كوادر متخصصة تهدف إلى بناء جيل فنّي جديد ينطلق من الأجهزة الذكيّة لإنجاز أفكاره المبتكرة.
ما يميّز الفن الرقمي أنه لا يقف عند حد الارتقاء بمستوى الأعمال الفنية الوطنيّة، وإنما يذهب إلى أبعد من ذلك، حيث بمقدوره أن يسهم في إكساب شريحة الشباب مهارات تقنية حديثة بإمكانها أن توفّر لها آلاف الفرص الوظيفيّة، إذ إن الفن الرقمي يمكن الاستفادة منه في مجال الدعاية والإعلان والتسويق، ومجال التصوير والجرافيك، ومجال الصناعة السينمائية، ومجال إنتاج الرسوم المتحركة، ومجال تصميم المخططات المعمارية ثلاثية الأبعاد، ومجال الرسم الكاريكاتوري الحديث، وغيرها من المجالات التي يحتاج إليها سوق العمل في هذا التوقيت.