د. عيد بن مسعود الجهني
التاريخ القديم والحديث في قصصه عبر ودروس عظيمة لمن يعتبر وعظة لمن يتعظ.. ومن يقرأ القصص الرهيبة التي حدثت في الأزمان الغابرة وفي هذا الزمان يدرك أن نهاياتها كانت بائسة لمن خان وطنه وأمته، نستشف من تلك العظات وتظهر لنا تلك الدروس والعبر، ومن يمعن النظر في تلك العبر والدروس والقصص ستفتح بصره على الأسباب التي انفضح بها أمر الكثيرين ممن باعوا أوطانهم للأجنبي خيانة للأمانة والوطن الذي له مكانة سامية في دين الله الخالد.
فالوطنية لها مفهوم واسع وحب عميق لا يدركه إلا من فقد وطنه الغالي وهاجر في أرض الله الواسعة يبحث عن مأوى بين دول العالم فهذه تقبله وأخرى ترده على أعقابه، وثالثة تؤويه مهاجراً لزمن محدد إذا بقي على أرضها، والبعض قد يكون مصيره الهلاك في البحار والمحيطات، فالإنسان بلا وطن سواء أكان لاجئاً أو غريباً لا يشعر بالحرية والكرامة إلا بالحياة الشريفة في وطنه الذي ولد وعاش على أرضه.
الإسلام أكد أن حب الوطن جزء من العقيدة السمحة وخيانته أمر محرَّم في النص القطعي قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} (النساء 107)، ولا شك أن خيانة الوطن عاقبتها وخيمة ومن عظم جرم الخيانة للوطن والغدر به أنه ينصب للخائن لواء يوم القيامة يُعرف به، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول (اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئس البطانة) رواه أبو داود، فلا يجوز لمسلم أن يخون وطنه أو يبيع أسراره لأي من كان، فهذا اعتداء صارخ على الوطن والنيل من مقدراته والعبث بممتلكاته وأمنه واستقراره مهما لاقى الإنسان من ظلم وقهر، يقول الشاعر العربي:
بلادي وإن جارت علي عزيزة
وأهلي وإن ضنوا عليّ كرام
وقد رأينا حديثاً في بعض ديارنا العربية بعض من خان الوطن، بالتآمر عليه والتخابر مع الأجنبي، رأينا كيف خرج (الخونة) من جحورهم بعد أن (باعوا) الوطن بتآمرهم ضده من أجل حفنة من الأموال أو منصب أو جاه قد يقدّمه لهم من استأجرهم ضد وطنهم.
الوطن معناه يتسع لمضامين عديدة هامة بالمفهوم الشرعي والقانوني، تعنى العلاقة بين المواطن والدولة، (فالوطنية) وحب الوطن.. تعني الوفاء للوطن وأن تسود العلاقات بين أفراد المجتمع، التعاضد والتكاتف صفاً واحداً ليؤدوا واجبهم نحو ربهم ثم أنفسهم ووطنهم ومجتمعهم، والمؤمن الصادق هو الذي يعرف قيمة وطنه ويدرك أن حب الوطن واجب شرعي والدفاع عنه أيضاً واجب شرعي.
حب الوطن من الإيمان والانتماء له جزء من عقيدتنا، والسيرة النبوية تبرز لنا مثلاً رائعاً يجسد مكانة وأهمية الوطن في الإسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم قدَّم لنا درساً عظيماً في حب الوطن عندما خرج من مكة المكرمة مهاجراً إلى المدينة المنورة بكى ونظر إلى مكة المكرمة نظرة حزينة، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على الحزورة فقال: (والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض إلي ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت منك) رواه الدارمي وابن عبد البر .
الرسول صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة المقدسة مكة المكرمة مكرهاً إلى طيبة الطيبة ليبلّغ الرسالة، ومع ذلك ظل قلبه صلى الله عليه وسلم يتجه إلى مكة المكرمة ولم يطمئن قلبه صلى الله عليه وسلم حتى نزل عليه قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} (القصص 85).
وقد لفت انتباهي الخبر السيئ تورّط البعض في جرائم (خيانة) للوطن ومصالحه العليا منها التواصل والتعاون مع أفراد ومنظمات معادين للمملكة، تجنيد أشخاص في جهة حكومية حساسة للحصول على معلومات رسمية ووثائق سرية للإضرار بمصالح الدولة العليا، تقديم الدعم المالي والمعنوي لعناصر معادية خارج البلاد.
وهذا أمر خطير جلل يأتي مناقضاً للانتماء للوطن الذي حبه أمر فطري، والإسلام دين الفطرة، ويعد اعتداء على الوطن والنيل من مقدراته ومكتسباته، والوطن لا يستحق من مثل هؤلاء محاولتهم العبث والتخريب والتدمير والتجسس على الوطن، فمثل هذه الأفعال لا تختلف عن الغلو والتطرف والإرهاب وما هي إلا إفساد في الأرض وتدمير للأوطان.
وإذا كانت صحيفة الجزيرة قد اختارت عنواناً لهذه الجريمة الكبرى في صدر صفحتها الأولى (خيانة الوطن) (فلا نامت أعين الخونة) فقد أصابت كبد الحقيقة، وبدءاً ذي بدء فإنني أقدّر موقف النيابة العامة الذي أكّد على أن التعامل مع قضية المتهمين يجري بما يكفل كرامتهم ويضمن حقوقهم ويوفر كامل الرعاية لهم، وهذا يتفق مع مبادئ الشرع الإسلامي والقوانين والأعراف الدولية وحقوق الإنسان.
فإذا كان من حق النيابة العامة أن توجه الاتهام لمتهم أو متهمين وتقديم الأسانيد الشرعية والقانونية التي تدينهم، فإن المتهمين على الجانب الآخر من حقهم تقديم المستندات الشرعية والقانونية التي تثبت براءتهم، ومن حقهم الدفاع عن نفسهم أو إقامة وكيل خاص، وبيان النيابة العامة طبقاً للتكييف القانوني ضمن لهم هذا، والمتهم بريء حتى تثبت إدانته.
ويمكننا القول إذا انتهينا إلى أن الوطن فوق الجميع وأن خيانته تعتبر في ظل الشريعة الإسلامية والقوانين الدولية هي (خيانة عظمى) فإن الجريمة إذا ثبتت فإن عقوبتها تكون واجبة، بل إن العقوبة تعد في الشرع رحمة، هذا لأن خيانة الوطن تترتب عليها أضرار عظيمة ونتائج وخيمة تمتد آثارها إلى المكتسبات والإنجازات ويلحق الأذى بالمجتمع عامة.
قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (الأحزاب 72).
الأمانة عنصر هام من عناصر الوطنية بنظر الإسلام، وهي تعني المحافظة على أسرار العمل والوطن حتى لا تصل لعدو متربص فلا تعطي اللسان العنان بإفشاء أسرار الدولة وإذا كان هذا هو نص القرآن الكريم، فإن السنة النبوية تحذِّر من خيانة الأمانة يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له) رواه مسلم، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا حدث رجل رجلاً بحديث ثم التفت، فهو أمانة) رواه أبو داود.
إذاً الإسلام حذَّر من خيانة الأمانة وكل من أخل بالأمانة وارتكب جريمة استحق العقوبة، وينطبق ذلك على جرائم خيانة الأمانة فيما يتعلّق بأسرار الدولة سواء بارتكاب الجريمة أو الشروع في ارتكابها وتمكّن السلطات من اكتشافها قبل وقوعها.
إن ديننا الحنيف {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (المائدة 3)، من أهم مبادئه المحافظة على الوطن ومقوماته الوطنية وسيادته وأمنه واستقراره.
الوطن منبت العزة والكرامة وأرض القداسات، منطلق الدعوة لدين الله الخالد، أكرمنا الله جلَّ جلاله بأن جعل بلادنا مهبط الوحي وحضن مقدساته وقبلة عباده المسلمين، قال تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا} (التوبة 40)، وقال تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} (البقرة 144)، حيث بزغت شمس الإسلام ليشرق على الدنيا كلها بالعطاء غير المحدود ليتسع لكل الناس بقلب مفتوح، وطن نعيش فيه ويعيش بيننا.
إذاً خيانة الوطن التي قد تحمل صوراً كثيرة منها أن يسلّم الخائن ذمته لأعداء الوطن والمجتمع لتنفيذ مخطط أو مخططات تخريبية منها أضرار جسيمة بالبلاد وسيادته وشعبه أبناء جلدته، فهذا في الرأي الشرعي والقانوني خائن لله ورسوله ولوطنه وولي الأمر وتكون العقوبة في حقه واجبة، وهي متروكة في تقديرها لولي الأمر بحسب ما يترتب على الخيانة من ضرر وأذى على الدولة والمجتمع، والعقوبات محددة في الإسلام وفي مقدمتها الحدود، وباب التعزير مفتوح للحاكم يقرّر ما يراه، ناهيك عمّا يتحمّله الخائن أو الخونة من إثم وينالونه من عقاب عند الله عزَّ وجلَّ.
ويبقى القول ونحن نشاهد ما يدور حولنا من مشاهد عظيمة عبر ودروس تستدعي إقامة الندوات والمؤتمرات حول حب الأوطان وأهمية الهوية التي يحملها المواطن وبيان خيانة الأوطان وتخريبها بالأعمال الإرهابية والأعمال التجسسية.
وهنا يبرز دور العلماء الأفاضل والمؤسسات الدينية وجهات التعليم والإعلام المرئي والمسموع والمقروء ... إلخ، في إبراز أهمية الانتماء للوطن، فلهذا أهمية بالغة، ونحن نرى تراجعاً في دور تلك الجهات الأمر الذي منح الفرصة لوجود قوى تستخدم الإعلام الأجنبي مطية للدعاية ضد الأوطان.
وإذا أردنا حقاً أن ننزع البساط من تحت أقدام هؤلاء فالواجب يفرض علينا وضع الخطط والإستراتيجيات لبلوغ الأهداف المرجوة.. فخطوة الألف ميل تبدأ بخطوة.
والله ولي التوفيق.