د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
استقبلت بلادنا مولد وزارة الثقافة في ثوبها الجديد بأمر ملكي كريم، وكان ابتهاجنا لما هو خليق بمثلها من تحديد المنهج المستوعِب لكل ثقافاتنا، وحشد الجهود الفاعلة نحوها، ولمّ شتات الفعل الثقافي السعودي بمكوناته؛ فما تزال أعماق الثقافة السعودية مغلقة، تتأبى على العالمية بما يتماثل مع شموس بلادنا التي أضاءت العالم في المجالات الأخرى! فمن أين تبدأ الثقافة وأين تنتهي؟ وما هي النقطة الحدودية التي يلتقي عندها الموروث الثقافي السائد مع التحولات الوطنية المنطلقة حاليًا نحو صناعة التنمية المستدامة وما بعدها من خلال الرؤية العملاقة 2030؟ وهل تؤصل وزارة الثقافة حين حلتْ في ديارنا لمفهوم الهوية الوطنية كمفتتح لصياغة الدروب التي تجمع منائر ثقافتنا ومنصاتها في فضاءات بلادنا السعودية الواسعة!؟ فالثقافة بمفهومها الشامل «المعرفة والمنجز وحاجة الناس» حتمًا ترسخ مفهوم الوطنية الأعلى وتؤصله. والماثل أمامنا أن وزارتنا الجديدة في زمانها، والعريقة في محمولاتها وتنوع مخزونها، جاءت مظلة وطنية لتنسيق وتأطير وتطوير بيئات التنوع الثقافي في بلادنا الذي يدور في حماه ومرتبعاته؛ وذلك لأن وزارة الثقافة مركز إداري تنظيمي، وليست مركزًا ثقافيًّا إلا من خلال تنظيم الواقع الثقافي وترقية مستويات الاستفادة من كل العقول الوطنية، وتهيئة البيئات الحاضنة للمشروع الثقافي الكبير، واستنطاق الموجود الثقافي، واستيعاب أثره وثرائه، واقتناص الفرص المجزية في التنوع الثقافي المناطقي، وصياغة اليقين بدخول الوعي الثقافي لكل منصات العرض المجتمعي بدءًا من الأفراد والأسرة والحي والشارع، وأن يكون تطوير ثقافة أجيال المتعلمين في مؤسسات التعليم المختلفة أولوية لوزارة الثقافة من خلال بناء برنامج وطني عالي المكونات، عملاق في أهدافه، يضم في ثناياه نظامًا لتحفيز الوعي والإبداع الثقافي بين المتعلمين، وكذلك يستحدثُ في إطار البرنامج قوالب مقنعة للأجيال الشابة لصناعة المحتوى الثقافي العام والأدبي، وفِي كل شأن يجعل الأجيال الجديدة عضوًا فاعلاً في تأسيس وبناء المشروع الوطني الثقافي. ونستشرفُ أن تكون وزارة الثقافة مانحة لذلك المشروع الوطني، ومشرفة على تنفيذه؛ فالثقافة مكملة للعلم والمعرفة، ومتممة لهما.. وأن يكون ذلك البرنامج العملاق من أولوياتها؛ فمن خلاله يؤسس لمستقبل الثقافة قياسًا على ما يشكله الشباب، ومن خلاله تظهر المشتركات الثقافية، ومنلاله أيضًا يتحقق الوصول إلى الخصوصية الثقافية. وهناك مكتسب أثير، هو تحفيز صناعة الرموز الثقافية من الشباب في الحقول كافة، ومن ثم تمكين الشباب من قيادة العمل الثقافي، والتعامل معه. ومن خلال ذلك ينخرط الشباب في المشروع الثقافي الوطني. وفِي رأيي، إن العباءة التعليمية العامة والأكاديمية لن تستوعب مصطلح الثقافة الشاملة التي تقيس مستويات التطور الثقافي، وما يميز الحضارات ذات النسق العالي، وهي في مجملها تراكم للوعي العقلي والفكري، وموقع بلادنا اليوم، وواقعها الجلي الذي اقتحم سكون الثقافة؛ فضخ فيها حراكًا لافتًا من الفنون الجميلة.. وما زالت هناك أرصدة ثقافية أخرى مجمدة تنتظر الإفصاح عنها وحوكمتها. والملحقيات الثقافية السعودية في دول العالم الشقيقة والصديقة تنتظر أواصر مختلفة من وزارة الثقافة لتحسن في مواقعها تشكيل الصورة السعودية في الخارج. كل ذلك مما يجب الإمتاح منه، وإعادة صياغته في قناتنا الجديدة «وزارة الثقافة». ويردف ذلك تأسيس الأكاديميات، ومراكز البحوث والترجمة؛ لإطلاق المنجز الثقافي السعودي ضمن آفاق عليا!
والحقيقة إن ترسيخ منهجية الثقافة يحتاج إلى إستراتيجية تعتمد على (المثاقفة) وليس (التثقيف) وقد أثبت الواقع التطبيقي بأن التثقيف المعتمد على المرسل والمستقبل لا يمكن أن يحدث فرقاً في ذهنية الناس ما لم يقترن بدوائر النقل المتبادل؛ وأن يلامس حاجة الطرفين؛ والواقع أن الثقافة اليوم تبثها منابع شتى حتى أضحى المنجز الثقافي وكأنه أمر ملح يُؤدى وينتهي أمره!! وإذا ما سلّمنا أن الخطاب الثقافي منتج رئيس لكل تجاذبات حياة المجتمعات، فإن لذلك طقوساً ودروباً منها؛ عدم تجريد الثقافة عن واقع الناس؛ وإشراك النموذج المثقف ليسُنّ السنن الحسنة؛ واعتماد التصنيف الثقافي ومكوناته الفكرية؛ وامتلاء المنتج الثقافي والقناعة به؛ وتسطير الأخبار المورقة عن المثقفين ونبضهم وأنديتهم وجمعياتهم واجتماعاتهم وما يقولون ويفعلون؛ ومن الطقوس الملزمة أن تفصل بين قيمة الثقافات الماضية وما يتطلّبه الحضور الثقافي اليوم من قيمة جديدة؛ كما يتطلب الواقع التقاط الإيجابيات في منصات الثقافة القائمة؛ ومن ثم البحث عمن يكفل لنا وفرة ثقافية محفزة للتفكير الإبداعي الملهم لدى أجيالنا؛ وذلك باستجلاب تصور حديث من ملاحمنا الثقافية عبر العصور المختلفة؛ ومن ذلك الشروع في تعصير التراث الثقافي المكتوب ليكون قناة داعمة لتطوير ثقافة النشء مما يؤسس لعلاقات ثقافية مثيرة بين الأجيال.. فأجيال اليوم تغيب عن كل ثقافاتها السابقة والممتدة إلا اللمم, وقبل ذلك ينبغي لوزارة الثقافة النظر بعين فاحصة في المحصول الذي يتوافر لثقافة اليوم ومصادره؛ وأحسبُ أن الزمن والضرورة تلزم باستحداث الوقف الثقافي وتشجيع مصادره بتنظيم مرن يحقق أهدافه؛ وأن تكون هناك مراكز ثقافية حكومية وأخرى خاصة للأفراد والمؤسسات ممن يملكون مفاتح الثقافة؛ كما أن ضرورة الحضور الثقافي يلزمه تحفيز الواقع الثقافي القرائي بإعادة صياغة نظام المكتبات العامة وتحويلها إلى مؤسسات مجتمع مدني مستقلة كاملة التشكيل المؤسسي, وأن يسن لها نظام يمكنها من إدارة القراءة وصناعة المجتمعات القارئة فذلك التحول يجعل من تلك المؤسسات الثقافية كيانات قوية تستولد لها فروعاً في مواقع مختلفة فيزهر واقع الكتاب السعودي في المحافل المحلية والدولية ويعكس ثقافة البلاد عامة، وتلك حزم من دروب شتى لوزارة الثقافة الوليدة لتلبي احتياجاً أزلياً لحياة العقول، ولتؤسس لبناء الرأي السليم وتفصل بين الأعمال المتهافتة الضعيفةالتي باتت تزاحم المنتج القويم في كل منصات العرض الثقافي ومؤسساته؛ كما تنضح بعض المؤسسات الثقافية بمن لا يُحسن صناعة الثقافة أو قيادة مراكبها حملهم نظام هش ليتصدروا! فالثقافة وإن كانت مكتسبات فردية فلابد من متن ومتانة؛ ودعائم لتحفيز الفكر وذخائر مفضلة بدرجة عالية إذا ما صفتْ مواردها, وأُحسن إليها ممن يقود مكوناتها.