الإبداع عشق عميق في النفس البشرية فهو أداة لتفريغ شحنات عقلية ونفسية وهو القالب الذي يحفظ الموهبة الفذة عبر العصور وهو منبع لتصدير الأهداف والأفكار بينما هو يعتبر الإبداع والابتكار المحطة التي يتوقف عندها الفارس المتعب لكي يستريح لفترة وجيزة وبعدها يستأنف نشاطه وإبداعاته وتصميماته وهي مرآة تعكس تطور الإنسان في كافَّة المجالات فالمبدع في مجال الموروث الثقافي عندما ينشر فكرة -ما- فإنها سوف تتجذر في عقله لعدة أسباب من أهمها أنه سيستفيد مما يسمى بالتغذية الراجعة من خلال مناقشة الآخرين له عن أعماله فالمبدع مهما كثرت أعماله إلا أنه سيظل غير قادر أحياناً على بلورة أفكاره وإنضاجها دون أن يشاركه الآخرون فيها وهذا لا يعني أن الإبداع في الأعمال التراثية أن يكون مقروءا عنه فقط بل مرئيا ومحسوساً وأعتقد أن الأعمال التراثية بشكل عام على الطبيعة تعتبر أمد عمراً وأعمق تأثيراً ومن خلال متابعتي البسيطة لأصحاب الإبداع والمواهب في الأعمال التراثية عبر لقاء تليفزيوني مع أحد المبدعين والمصممين الأستاذ/ فهد بن حسن بن محمد الجبهان فقد تحدث بإسهاب وبروعة فكرية فائقة عن بداية أعماله في التصميم والتطوير والبناء وطريقة استخدامه لمواد البيئة مستخدماً مكونات عناصر النخلة بالذات دون غيرها من الأشجار لأنها تلامس الواقع القديم ويستلهم منها أفكاره ويقتنص العناصر اقتناصاً حديثاً ومن خلال هذه المواد فإنه يقوم بتصميم أشياء عديدة امثال - المقاعد والنوافذ والأكواخ والحبال والمجالس التراثية والقبب والأواني المنزليَّة والأدوات الزَّراعية والأسقف والكنبات والمكاتب والطاولات والسلالم وأدوات البناء والأبواب وأحواض الزهور والسلال والحصر وسفر الطعام حيث إنه يعتبر النخلة سيِّدة الأشجار وحليفة النصر والمجد والطير والبشر لأنها ثابتة في الأرض بجذوع باسقة في عنان السماء لا تكاد ترى أعلاها تنتج ثمراً لذيذاً وعندما تنظر إليها من الأسفل فلا تشاهد إلا تراباً وجذعاً دائرياً يتكون من خشب يابس يشبه الصخرة الجامدة وعندما ترفع رأسك إلى الأعلى فتشاهد الطلع النضيد المنتظم بتناسق عجيب وهذا الثمر الزاهي المتعدد الألوان والأحجام من أصفر كالذهب وأحمر كالياقوت وأخضر كالزمرد - فإنها حليفة المرء منذ البدء وغذاء الفقراء والأغنياء معاً فقد استظلت بها مريم وابنها المسيح عيسى عليه السلام فكتب الله لهما الحياة برطبها وجعلها الله من ثمارلجنة وأكرمها نبي الرحمة محمد صلوات الله وسلامه عليه وكانت زاده في وقت الرخاء ووقت الشدة وزاد أصحابه من الأنصار والمهاجرين - فقد قال الشاعر الحكيم عن ثمر النخلة:
ألذ من السلوى وأحلى من المنَّ
وأعذب من وصل الحبيب على الصَّدِّ
فقال إنني أتحدث عن سيِّدة الأشجار لأشكرها على ما منحتني من الحكمة والصبر والوقت فكلما قرأت التاريخ وقصة الحضارات والفتوحات كانت النخلة الأطول والأجمل كانت كالجندي المجهول الذي يمنح النصر للمرء العارف فهي عروس المدائن والقرى وحنين الطفولة وذاكرة الكهول فإنني أشعر بالسعادة عندما أسمع تميزاً لصاحب إبداع في مجال الأعمال التراثية ثم أجد أعمالاً عديدة على السطح فإنني أستطيع من خلال تلك الأعمال أتجول في أرجاء عقله وفكره وحين أناقشه في مثل تلك الأعمال فإنه يعتبرها أمرا جانبيا وغير أساسي فلقد تشرب عقله بتلك الأعمال فمهما كانت روعة أعماله وأفكاره إلا أنه لا يمكن أن يستمر توهجها دون إبراز نشاطه بتوسع.
صحيح أن الإبداع مهارة ليست متيسرة لكل فرد إلا أن صاحب الفكرة بإمكانه أن يلخص عصارة أفكاره في مسودة ويعطيها لغيره لكي يبحث فيها بعمق ويرتبها ويصوغها بالشكل الملائم فإن جمال أعماله في يد من يستطيع تطويعها بسبب تنوع أنماطها وسبل تشكيلها للحرف منها ما يلامس جملة أو عبارة أحالت مبدعها إلى كتلة نقل المشاهد بها من المعنى إلى أبعاد أخرى تجمع قيمة الحرف بالفكرة من تشكيلة ليصبح عملاً إبداعياً جديداً ذا هوية وطعم ورائحة. حيث إن إنجازاته وإخفاقاته قد أسهم بها بشكل أو بآخر في إحياء الموروث الثقافي العريق فهذه فرصة كبيرة أمام كل زائر لهذا المنتجع التراثي حتي يستعيد حياة الآباء والأجداد من خلال مشاهدة تلك الأعمال.