في هذا المقال نستكمل موضوعنا عن معنى الحياة الذي هو -بلا شك- أساس الشعور بجمال وقيمة وجوهر الوجود. وأوضحنا في المقال السابق أن الإنسان الحُر المسؤول الذي كوَّن هوية ناجحة عن نفسه لديه رسالته الخاصة الملتزم بأداء مهامها، وهي التي تشمل قيمه وأهدافه وكل نهجه الحياتي، والتي بها يستطيع أن يستشعر معنى الحياة.
إنَّ معنى الحياة يتغير بشكل مستمر، لكنه دائمًا موجود، ولا يوجد شيء معين يتخذ كمعنى وحيد للحياة. وهناك صور وطرق عديدة لاستشفاف معنى الحياة، أهمها: أولاً أن يمر الفرد بخبرة تجاه فهمه وتعامله مع نفسه، بتنمية الجوانب الإيجابية، ودحض الجوانب السلبية. كذلك أن يتعرف على أفكاره وقناعاته، وكيفية تأثيرها على مجريات حياته، وأن يفكر في خطة حياته، وتحقيق أهدافه، وإشباع رغباته بما يتوافق مع رسالته.
ثانيًا: أن يعيش الإنسان تحديات قوية، ويتخذ تجاهها ردود فعل تعكس معاني عميقة. لو أمعنا النظر لوجدنا أن معنى الحياة لا يقتصر على ظروف أو حالات معينة. هذا يعني أننا نستطيع أن نستشعر هذا المعنى حتى في أحلك الظروف. والإنسان الذي يتجه نحو معنى حياته يستطيع أن يواجه التحديات مهما كانت.. «إن المعاناة تتوقف عن كونها معاناة في اللحظة التي تكتسب فيها المعاناة معنى» فرانكل. إننا نرى أن شعور الفرد بالمعاناة يوحي بمؤشر قوي بأن هناك خطأ يحدث في حياته، وهو غالبًا يكون لعدم التوافق مع توجهاته، أو بالتركيز فقط على ما ينقصه ويرفضه، أو بالتفكير المسهب بالماضي أو المستقبل. إذا وجد الفرد نفسه أمام قَدَر صعب محتوم، لا مفرَّ منه، فسيكون أمامه فرصة لتحقيق معنى المعاناة. والأهم هو الطريقة أو الاتجاه وردة الفعل التي يتخذها نحوها.
ثالثًا: التحقيق والإنجاز: ينبغي أن يتساءل الإنسان عن ماهية إنجازاته التي يفخر بها، والأهم ما هي المعاني المستخلصة من كل إنجاز وعمل.. ولن يتمكن الإنسان من مواصلة الإنجاز بدون معرفة حقيقية برغباته أو بمناطق القوى الداخلية والخارجية المحيطة به.
رابعًا: أن يمر بتجربة وخبرة تجاه شيء معين، مثل الأعمال المتصلة بالطبيعة والدين والتطوع وخدمة المجتمع والتعلم.. التي تعكس قيمًا كالعطاء والمسؤولية الاجتماعية وغيرها.
خامسًا: أن يعايش قيمة معينة مع شخص ذي أهمية: كالإخوة والأصدقاء والوالدَين والشريك.. وأي علاقة روحية أخرى قد تقوم على الحب. يقول فرانكل: «الحب هو الطريقة الوحيدة التي يدرك بها الإنسان كائنًا إنسانيًّا آخر في أعمق أغوار شخصيته». هذا يعني أن الإنسان لا يصبح واعيًا كل الوعي بالجوهر العميق لشخص آخر إلا إذا أحبه.. لماذا؟ لأن الحب الروحي يمكِّن من رؤية المكامن العميقة في المحبوب؛ وبهذا فالحب يساعد المحبوب في تبصيره بنفسه، والمُضي قُدمًا نحو ما هو مأمول. إننا نرى أن الحب الحقيقي هو المعنى الغائي المنشود؛ لأنه بالحب يعلو الفرد بقدراته ويتألق، ويصبح أكثر قوة وإصرارًا على مواجهة تحديات الحياة.
لو صدقنا أن سمو الفرد بذاته وتحقيق المعنى هو الهدف النهائي للحياة الإنسانية لأصبحت كل رغبات ومقاصد الفرد المختلفة تؤدي لهذا الهدف، وهو التوجه لمعنى حياتي مفعم، ينبع من وعي الإنسان لما يرتضيه بالفعل في أعماقه بما يسهم في علو ذاته ورقيها دون أن يلتزم بحد معين يتخذه لتحقيق معنى حياته؛ وبهذا سينتج الشعور بالسعادة وتحقيق الذات طالما كان الفرد مستمرًّا في تصديق هذا الهدف النهائي.
لنحيى حياة ذات قيمة ينبغي علينا أن ننظر للعالم من عيوننا لا من عيون الآخرين، وأن نوسع مجال إدراكنا؛ لنكون واعين بجوهر كل معنى وما يتضمنه من قيم. إن الحقيقة هي ما يستبينها كل فرد بنفسه، وبشغفه، وبالإنصات لشكوكه، وبفضوله لخوض تجارب عديدة بعيدة عن كل ما يفرض وفق أي سيطرة وإلزام. والإنسان الذي يعلو بذاته لآفاق عالية هو من اكتشف نفسه ورسالته، وتبنى منظورًا إيجابيًّا ثابتًا، واستشعر إمكانياته ونجاحاته، وحلل تجاربه وخبراته المتنوعة المتضمنة قيمًا ومعاني مختلفة؛ لهذا على كل فرد معالجة الفراغ الداخلي؛ ليكون أكثر قوة وإرادة؛ ليستمتع بحقيقة هذه الحياة وأعماق لحظاتها. إننا عندما نقرر إصلاح ما في الداخل، ونستشعر جمالنا الحقيقي، ونستلذ بعاطفة الحب تجاه كل شيء يحيط بنا، حينها ستزهر لنا الحياة بكل ألوانها.