د.محمد بن عبدالرحمن البشر
ما أن قلنا حلت العشر الأواخر من رمضان، حتى بدت ملامح انتهائها، وهي تلك الليالي الكريمة التي يتحرى فيها المسلمون ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، والتي فيها تتنزل الملائكة والروح بأمر من البارئ عزّ وجلّ، وفيها يجتهد المسلمون في صيامهم وقيامهم لعل الله يغفر لهم ذنوبهم، وييسر لهم أمورهم، ويشرح صدورهم.
هي موسم عبادة، وهي موسم ارتباط بالله سبحانه وتعالى، واعتماد عليه وطلب لعونه في قيام تلك الليالي الكريمة. كم هو جميل التوكل على الله، فهو أولاً إيمان ويقين، واعتماد على رب العالمين، وهو أيضاً علاج نفسي، بزرع الطمأنينة والأمل، بقول الله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ أن اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} سبحانه فكل شيء مقدر محسوب.
الدنيا بحر فيها أمواج تقذف بالبشر يمنة ويسرة، وهي عروس حسناء تتزين لسلب الألباب، وينال البعض منها النصيب، وهي عجوز شمطاء مبخرة كما قال أحد الشعراء في وصف لحدث آخر، تخرج بوجهها الكالح، وهنا يظهر الشكر والثناء واليقين والتوكل، فالحمد لله على الخير، والحمد لله على السراء والضراء، والتوكل عليه في كليهما، وهنا تظهر حقيقة الإيمان.
العشر الأواخر تدبر للقرآن، وتأمل في معانيه ومراميه، والتسابق فيها لفعل الخيرات، والحياة نعمه من الله وامتحان، وهي درس عميق، ومدرسة عتيقة، والحياة كما يقال صفحة بيضاء، والإنسان فيها كقلم رصاص تبريه العثرات ليكتب بخط أجمل، فيبقى ذكره وكتبه في الآفاق، ويلقى جزاءه في الآخرة إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، ومغفرة ربك وعفوه أعظم.
الحمد لله الذي بلغنا العشر الأواخر، كما بلغنا إليها أعوامًا عديدة، ونسأله أن يبلغنا إياها أعوامًا أخرى مديدة، وأن يجعلها وسائر الأيام، أيام خير وبذل وعطاء، ورحمة بالعباد في سائر الدنيا، وأن يديم على المسلمين نعمة الإسلام، وقوة الإيمان.
الإسلام الرائع، هو دين التسامح والمحبة وقبول الآخر، وعدم التفريق بين البشر لأي سبب كان.
الإسلام في هذه العشر الكريمة جَمَعَ عدد غير قليل في مكة المكرمة، جَمْعٌ من أقطار مختلفة، وألوان متمايزة، ولغات غير متماثلة، ولهجات متباينة، وأساليب معينة متفرقة، وأنماط حياة متعددة، ومذاهب من مشارب كثيرة، ومع هذا فهم مجتمعون ليدعون رباً كريماً بلغة واحدة، وبقلب واحد، مجتمعون في المسجد الحرام، ومتوجهون إلى رب الأنام، يسألونه ما يحتاجون ولا يكلون ولا يملون، فاللهم أقبل منا ومنهم التضرع والدعاء، وقنا شر البلاء.
كلهم متجهون إلى الكعبة وهم في أمن وأمان ينعمون بالأمن، وتوفر الأنواع من مسكن ومأكل ومشرب، فقد وفرت هذه البلاد الكريمة بقيادة خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين حفظهما الله ورعاهم، سبل العيش والمقام الكريم، فخدمة الحرمين الشريفين شرف منحه الله لهذه البلاد وقادتها، فسارعوا في بذل كل ما هو متاح لتوفير هذه الخدمة الجليلة على أكمل وجه، وأفضل نسق.
العشر الأواخر ودق تجري بين سحاب متراكم، فيظهر الصيب الذي ينفع الناس، فتتعطر القلوب، وتمسح بإذن الله الذنوب، وتتآلف القلوب، وتنتشر المحبة والرحمة والرأفة بين العباد، ويسود التسامح والإيثار، وهذا من أجمل الأخلاق وأمتعها، وأكثرها أثراً على بني البشر.
اللهم إن هذه العشر في أفئدتنا راسية، تطلعاتنا إليها متعافية، فإنا نسألك أن تقبل منا الدعاء وأن تقبل منا التضرع والرجاء، وأن توفقنا وتديم علينا وعلى جميع المسلمين والبشرية جمعاء، الأمن والأمان والخير والسلام، وأن تحفظ هذه البلاد وقادتها وسائر بلاد المسلمين من كل مكروه.