الحقيقة الأولى: باعتراف علماء الاقتصاد الوضْعي أنفسهم أنَّ النظرية تنشأ لبيان الواقع وتفسيره، وترتبط به من حيث إطارُها وفرضياتها، كما أنَّهم يُقِرُّون بأن «الغالبية العظْمى من النظريات الاقتصادية التي نجدها حتى الآن في كتب الاقتصاد هي نظريات من عمَل اقتصاديِّين عاشوا في دول الغرب، وتأثَّروا - بلا شك - بتاريخهم، وبالبيئة الاقتصادية التي عاصروها، وبالفلسفات التي اعتنقوها».
الحقيقة الثانية: ان النظرية الاقتصادية في صُوَرها الغربية المختلفة تَنبني أساسًا على مرتكزات مادِّية فردية؛ ولهذا تفشل في معالجة جميع المسائل التي تتعلَّق بالمجتمع، كما تؤدِّي بالفرد إلى طريق مسدود، حيث يصبح مستسلمًا للدعايات الاستهلاكية، وبذلك يعيش في دوَّامة من الحاجات الاستهلاكية، وفي قلق بسبب عدم قدرته على مسايرة هذه الدوامة، فلا يكون أمامه أيُّ منفذ للخلاص؛ حيث يستحيل عليه تحقيق استقراره النَّفْسي.
الحقيقة الثالثة: إنَّ أيَّ نظرية مهما ادَّعت الحياد إلاَّ أنها - وباعتراف المحقِّقين منهم - مشْبَعة بالقِيَم المتوارَثة والسائدة، ومعنى ذلك أنَّ صلاحية أيِّ نظرية غربيةٍ مرهونةٌ بالزمان والمكان؛ ولذلك فإنَّ من نقاط المفاضلة بين الاقتصاديات الوضعية هي أنَّ الاقتصاديين المسْلِمين يرفضون دومًا حياد علم الاقتصاد، ويقرُّون منذ البداية أنَّ اقتصادهم الإسلامي زاخر بالقِيَم، ومن هنا فإن علم الأخلاق يُعَد بالنسبة للاقتصاد الإسلامي من مقدماته الأولية.
الحقيقة الرابعة: يرتبط الاقتصاد الإسلامي بفروع المعرفة الإسلامية؛ وذلك لأنه يَنهل من نفس المصادر التي تنهل منها هذه الفروع، كما أنَّ الاقتصاد الإسلامي يدرس جانبًا من السلوك الإنساني، وهذا السلوك نفسه الذي تدرس جوانبه الأخرى في الفروع الأخرى من العلوم الإنسانية، على أنَّ للاقتصاد الإسلامي علاقاتٍ أوثَقَ مع بعض العلوم الإسلامية، وخاصة علوم العقيدة والأصول والفقه والتاريخ والأخلاق.
الحقيقة الخامسة : ان نمط السلوك الإنساني الذي يفترضه الاقتصاد الإسلامي - بصورة أساسية - هو سلوك الشخص بالمُثل والقِيَم الإسلامية، مثل مسؤوليته أمام الله - سبحانه وتعالى - وعنايته واهتمامه بالآخرين، والالتزام الذاتي، والقناعة، والغيرية، ومن المدهش حقًّا أن بعض الاقتصاديين الذين كانوا يتبنَّوْن المنطق الوضعي في الاقتصاد تراجعوا فيما بعد عن هذا الموقف، وعلى رأس هؤلاء الاقتصاديين «جونار ميردال» الذي يقول: إنه من الضروري في كل بحث اقتصادي أن نَعمل من البداية وحتى النهاية بمبادِئَ واضحة، فنعيد إلى علم الاقتصاد طابعه كعلم أخلاقي.
الحقيقة السادسة: لا جدال في أن العالَم الإسلامي له قِيَمه المختلفة عن غيره، وما دمنا سلَّمنا بذلك فعلينا من منطق إسلامي ومن منطق علمي أن نتعرَّف على ما يلائمنا، وعلى ما يفسِّر واقعنا ويوجِّهه، ولا شك أن تحقيق ذلك إنما يكون بصياغة واكتشاف نظريات اقتصادية نابعة من واقعنا، فإن لم يكن ذلك متاحًا حالياً فلا أقل من مراجعة الموجود من تلك النظريات مراجعةً فاحصة ناقدة، تكشف عن كل ما فيها من مثالب عاملة على إبعادها من جهة، ومن ثَم تعديل وتطوير تلك النظريات من جهة أخرى.
الحقيقة السابعة: أن أيَّ اقتصادي مهْتمٍّ بالاقتصاد الإسلامي يَرى ضرورة أن تكون هناك نظرية مستقلَّة لسلوك المستهلِك في الاقتصاد الإسلامي؛ إذ إن مثل هذه النظرية لم تُطوَّر بعْدُ، وهناك مشكلة حقيقية في صياغة النظرية الوضعية المتعلِّقة بسلوك المستهلك، فصياغة النظرية الواقعية تتطلَّب الملاحظات الفعلية عن الإنسان (الاقتصادي) المسْلِم، ولكن ليس هناك مجتمع في العالم المعاصر يمكنه أن يدَّعي بأنه إسلامي تمامًا، بمعنى أنَّه مجتمع يُقِيم إطارًا تنظيميًّا تَلتَزِم فيه العوامل الاقتصادية بتعاليم الإسلام وشرائعه.