طوابير طويلة لا تُرى نهايتها، جميع أفرادها في حال سير حثيث، كانت بداياتهم واحدة، ثم اختلفت طرائقهم عبر مشارب، ودهاليز، بأعدادهم، يخترقونها بمحض اختيارهم.
ولتصاعد الغبار وحرارة الأنفاس وقصور الرؤية؛ فقد كان انكشاف السابق في الحظ والمتقدم في السير متعذراً.
تنتهي رحلاتهم بأبواب موصدة دون عالم غامض مريب، من يلجه لا يعود. وبجوار الأبواب هناك مَن يقف ليتفقد حقائبهم، ومما يؤسف له أنه قد لا يسمح لهم باصطحابها لعدم موافقتها للشروط!
هذه النهايات المخيبة للآمال، لم تمنع البقية من إكمال السير مشياً، وهم يحملون بأيديهم حقائبهم الكثيرة المتفاوتة، وزاد من حدة توترهم صوت الحادي الذي يحثهم على العدو في المسير. على الرغم من الألم الذي يكاد يشل أطرافهم من جراء ثقل الحمولات، إلا أنهم لا يستغنون عنها، للوهم بأنهم قد يحتاجونها في طريق رحلتهم!.
إن الأصل في الكون السعة، والوفرة، والثراء، والثابت أن نوال الخير فيها ميسر، ومتاح؛ لكونه مُتدفقاً، مُنساباً، ومُسخراً من لدن «غني حميد».
ولكن حين تهيمن مشاعر الخوف، من الرفض، الفقد، الفقر، الحروب، الفناء...فهذا يقود للسعي واللهاث؛ نحو مزيد من التملك، كصنيع الفراعنة في محاولة تخليد أجسادهم بتحنيطها.
ولا يقف التملك عند اقتناء الأشياء فحسب، فيتحول الأشخاص إلى أشياء مدرجة ضمن قائمة ما يمتلك ويُفاخر به ويكاثر.
ومما زاد الطين بلة -ولا سيما مع توفر المال وهي مادة الاقتناء- أن انزلقت أقدام البعض في التهافت نحو الجديد، يقتنيه ثم ما يلبث أن يمله فيتخلص منه، لا يفرق بين الحاجة الفعلية للشيء أو لمجرد الرغبة في امتلاكه.
لا ينتهي سعي اللاهث خلف التكديس عند إجهاد قواه في الجمع والتحصيل، بل، تقوده رغبته الجامحة إلى التنازل عن القيم والمبادئ الإنسانية، فيستغل النفوذ، ويمارس الغش والتدليس، وأبعد النجعة في ألا يتردد في التحالف مع الشيطان لأجل إفساد الأرض، وإيقاد القتال، وإشعال الحروب للتمكين والاستحواذ.
إن المكاثر يزداد ثقلاً وانجذاباً نحو أغلال الأرض، يجده في تعكر مزاجه وسرعة تململه، يحسه في ضيق صدره وكثرة تذمره، يلاحظه في كثرة تنقله وتذوقه للذائذ عاجلة لا طعم لها. وكما قيل: «إذا ترفه الجسد تعكرت الروح».
وفي العقدين الأخيرين تحولت وفرة المعلومة وسهولة نوالها، إلى مادة اقتناء جديدة تحشى بها الحقائب في رحلة الحياة؛ وغدا التنافس المحموم في نقل المعلومات والأخبار، عبر التقنيات الحديثة سبباً في شعور الفرد بمزيد من الضغط والتوتر، يصاحبه إلحاح قوي بالخروج من أزمة سيل المعلومات الجارف، وتمييز الوقائع من الشائعات، في أحيان كثيرة لم تزده المتابعة الفورية للمعلومات إلا ضعفاً في التركيز، واختلالاً لمهارة ترتيب الأولويات، وفقداناً للبوصلة في رحلة البحث عن الحقيقة!
- نحن بمسيس الحاجة لإعادة تشكيل تصوراتنا وصياغة مفاهيمنا تجاه عدد من الحقائق: كحقيقة الدنيا، وقيمة الإنسان، وطبيعة الأشياء، فضلاً عن الرسالة التي تقف خلف الوجود الإنساني، وحقيقة الآخرة.
- الحياة الدنيا لا تستمد قيمتها الحقيقية من صورتها، وإنما من الاستثمار الأمثل لمواردها وعوائدها بما يخدم البشرية ويعمر الأرض وينشر ضياء الرسالة السماوية الخالدة.
- إن قيمة الإنسان الأصلية تنبثق من داخله، فهو المعجزة الربانية والكيان الخارق؛ وذلك بخلقه في أكمل صناعة وأحسن تقويم. إن وعينا بهذه الحقيقة يغمرنا بتقدير ثابت، ورضا متسق يبدد معه كل شعور بحاجتنا إلى امتلاك أشياء تملأ الفراغ الذي نسد به جوفنا الفارغ!
والأصل في مفهوم التملك يعني: أنه لا يوجد ما تملكه البتة إلا ما نويت إنفاقه في أوجه الخير!. فهو وإن انتقل من حيازتك ظاهراً إلا أنه انتهى به المطاف ليستقر في عالم آخر يتهيأ لاستقبالك بالبشرى!
مفهوم آخر يحتاج وعياً ومراجعة: إنه مفهوم الوفرة، والذي يعني صرف الانتباه عما لا نملكه، والاكتفاء بتقليب نظر القلب فيما نملكه في جوهرنا من روح وعاطفة وفكر...
الوفرة تقتضي تعديل موقفنا تجاه الأشياء فبدلاً من أن نسخر طاقاتنا وقوانا في توسيع دائرة الامتلاك وخدمة الأشياء من حولنا كان الأنسب أن نسخر الأشياء في خدمتنا!
فمفهوم الوفرة: يعني أن ندرك حقيقة الأشياء من حولنا فمن طبيعتها الدوران والانتقال والتحول؛ وهذا يعني أن كل الأشياء التي بحوزتنا ستنتقل إلى خدمة غيرنا:
فبينما كانت عدسات كاميرات العالم تتجه صوب وريث العرش البريطاني المولود وهو بين ذراعي أمه حال خروجها من المستشفى كان أكثر ما لفت انتباهي هو خاتم الأميرة الراحلة ديانا وقد انتقل ليزين أصبع زوجة ابنها «وليام»، في حين قطع الألماس النادرة التي كانت تتملكها الأميرة يوماً ما، صيغت من جديد كخاتم خطوبة لزوجة ابنها الأصغر «هاري». إنها طبيعة الأشياء، متحولة، دائمة الدوران، والانتقال!
إذاً فالإنسان معجزة، والدنيا مكان رائع ومدهش، خلقه الله تعالى للاستثمار الأمثل للأشياء وللعمران وللاستمتاع أيضاً. أما الدنيا من حيث الزمان والمكان فهي مؤقتة غير سرمدية محدودة غير متناهية تذكرنا على الدوام بأننا مجرد عابرين.
(لا أريد اقتناء شيء لن أستطيع أخذه معي إلى القبر) فريد ألن.
إذاً تَخَفَّفْ من حقائبك وامض بخفة.