«الجزيرة» - أحمد المغلوث:
في مجلس استراحتنا الأسبوعية الذي بات خلال شهر رمضان المبارك ثلاث مرات في الأسبوع، وكما أشرت في «إطلالة» سابقة، فقد تعودنا أن نلتقي فيها مساء الجمعة، أما في هذا الشهر الكريم فكان موعدنا بعد الساعة العاشرة ليلاً. وصاحبنا أبو صالح صاحب المزرعة التي يوجد فيها مجلسه العامر اعتبرناه جميعًا «استراحتنا» المجانية بفضل كرمه وحُسن ضيافته.. على أن يروي كل واحد من شلة «الاستراحة» حكاية طريفة، عاشها أو سمعها. وفي إطلالة هذا اليوم أكتب لكم الحكاية التي رويتها لهم، وجعلتهم يضحكون كما ضحكت يومها. الحكاية تبدأ عندما وصلت لفرضة الخبر قادمًا من البحرين عبر المركب «الجالبوت»، وبعد أن انتهينا من إجراءات التفتيش توجهنا أنا وصاحبي يوسف إلى موقف سيارات الأجرة للسفر إلى الأحساء. كانت في الموقف سيارتان، إحداهما كان بها راكب أجنبي، يبدو من ملامحه أنه من الهند. كان الجو حارًّا ومشبعًا بالرطوبة، ولم تكن هناك مظلات تظلل السيارات أو حتى المسافرين. وعندما اقتربنا من السيارة التي بها الراكب الهندي ابتسم لنا ابتسامة جذابة، كشفت عن أسنان لامعة. وبسرعة فتح لنا باب السيارة، وتراجع إلى جهة الباب الثاني؛ ليفسح لنا المجال للركوب بدون أن ينبس ببنت شفة اللهم إلا ابتسامته وحركة من رأسه.. وقبل أن نصعد إلى داخل السيارة إذا بصاحبها الذي جاء مهرولاً من أمام المبنى الذي كان يستظل بظلاله، ويراقب عن كثب الموقف. رحَّب بنا باهتمام بالغ، وقال وهو يمسح العرق الذي كان ينضح من وجهه بطرف غترته: «حيا الله الشباب. عساكم استنانستم بمشاهدة الأفلام. ولا رايحين لشيء ثاني». تطلعت في وجهه بنظرات حادة، وفيها غضب؛ وقلت: «استح على وجهك، ماذا تقصد بشيء ثاني..؟». ابتسم السائق بعدما تراجع قليلاً إلى الوراء، وقال: «لا تفهمني غلط يالشباب، هناك من يروح للسينما، وهناك من يروح علشان سوق المقاصيص. فيها محال تبيع أسطوانات محمد فارس وزويد وعبدالله فضالة وحتى أم كلثوم وفريد».
عندها قاطعه يوسف وقال: «خلاص انتهى الموضوع. ورانا مشوار طويل!». فقال السائق: «إذا حبيتم تدفعون أجرة الراكب الرابع لحظات واحنا ماشين».
ثم أضاف: «ممكن الهندي يساهم معكم. وعلى العموم أنا رايح أسجل خروج السيارة من الموقف وراجع. والله يجيب الراكب». وبعد أن انتهى من تسجيل سيارته جاء مبتسمًا وهو يقول: «الحمد لله الراكب الرابع ينتظرنا في «شيشة البنزين الذي سوف نأخذه معنا. أخبرني بذلك موظف المكتب.. ما شاء الله حظكم زين يالشباب». قال ذلك ونحن جالسون الثلاثة في المقعد الخلفي. لم تكن معنا حقائب كبيرة تستدعي وضعها في صندوق السيارة الشيفروليت موديل 54؛ فحقيبتَينا كانتا صغيرتَين؛ ووضعناهما خلفنا في المساحة بين الزجاج الخلفي والمقعد.
بعدها أخرجت من حقيبتي مجلة الآداب اللبنانية؛ لأقرأ فيها خلال الرحلة. كانت السيارة تعبر بنا الطريق متجهة إلى حيث ينتظرنا (الراكب الرابع في الشيشة). وبدت مباني شركة النفط واضحة المعالم كلما اقتربنا منها، وها هي منارة مسجد الظهران الشهير تبدو شامخة. وفجأة التفت إلينا السائق وقال: «دستور يا شباب، عسى عندكم أسطوانات. تراني شراي». فقلت له: «للأسف ما عندنا إلا مجلات وروايات». فقاطعني صاحبي يوسف: «تراه يحسبنا جايبين معنا الخيط والمخيط!». فضحك السائق وقال: «حلوة الخيط والمخيط. لكن معقولة أحد يروح البحرين ولا يشتري الأسطوانات اللي توسع الصدر. على الأقل اشتريتوا لكم كم أسطوانة جابت لكم قيمتها دبل. لا وممكن غطت ما خسرتوه من فلوس هناك».
وانتبه يوسف إلى هذه العبارة باهتمام، وقال مخاطبا السائق: «خلاص لو سمحت رجعنا الفرضة، ونعمل بنصيحتك، ونرجع البحرين ما دام فيها فلوس دبل». فضحك السائق ضحكة جعلت الراكب الهندي يحرك رأسه ويعتدل في جلسته وهو يتساءل بينه وبين نفسه عن الباعث وراء هذه الضحكة المجلجلة. وقلت وأنا أقلب صفحات المجلة: «تركه عنك. تراه خراط، وبيضحك عليك، بيرجع البحرين. طول ليلته البارحة ما نام من الرطوبة رغم أننا نايمين في سطح الفندق. وما جاء الصباح إلا وسراويلنا كلها مبلولة من (الطل) تقول سابحين في عين (الحارة) بسراويلنا وفنايلنا». فرد السائق: «بصراحة رطوبة المنامة ما في مثلها خصوصًا هالأيام». فلاذ بالصمت. وكنا قد بلغنا» الشيشة»، وقام عامل «الشيشة» بتعبئة السيارة بالبنزين بعدما تسلم السائق منا الأجرة، وما هي إلا لحظات وإذا بالراكب الرابع قادم إلينا. ألقى علينا تحية السلام، وركب في المقعد الأمامي. كان يرتدي بنطلونًا بلون (كاكي)، وقميصًا أبيض، ويضع على رأسه غترة. كان الرجل طويلاً ونحيلاً ذا شارب خفيف، ولحية قصيرة. وعندما اعتدل في جلسته قال للسائق: «عسى ما تأخرت عليكم. من الصباح بلغت أحد الزملاء وهو رايح الخبر يسجل اسمي في مكتب موقف السيارات. (الشيشة) هنا أقرب لي من هناك». كان الحر شديدًا، والرطوبة خانقة، ولكنها أخف كثيرًا من رطوبة المنامة. كان واضحًا أن الرجل أحد العاملين في شركة النفط، ويبدو أنه في إجازة ما. نظر السائق في وجه الرجل بسرعة وهو يستعد للانطلاق، وقد تعجب من سفره في وسط أيام الأسبوع.
وتساءلت بيني وبين نفسي: «لماذا خطر له الخاطر نفسه، واشتركنا معًا في التساؤل ذاته». لاحظ الرجل حيرتنا، وعلى الأخص السائق؛ لأنه «تطلع في وجهه»؛ فقال مخاطبًا السائق: «جاني خبر وفاة جدتي، وضروري ألحق الصلاة عليها. الدفن العصر». واستطرد: «الله يرحمها، ويسكنها الجنة. كانت جدة بمنزلة أم». قال ذلك وخنقته العبرة؛ وراح يبكي بحرقة. قمنا جميعًا بمواساته، والدعاء لجدته حتى هدأ. حتى الهندي راح يتساءل عن سبب بكاء الرجل، فرد عليه بلغة إنجليزية جيدة، وشعر الهندي بسعادة؛ لأنه وجد بين ركاب هذه السيارة واحدًا يستطيع الحديث معه بيُسر وسهولة بعيدًا عن الكلمات غير المفهومة له. وعندما خرجنا من حدود مدينة الظهران، وكما يقال «مسكنا الخط»، إذا بالسائق يقول: «بلا هم ولا غم. خلينا نوسع الصدر. كلنا في يوم من الأيام بنروح مثلما راحت جدة الحبيب». قالها وهو يشغل جهاز أسطوانات السيارة. وإذا بها أغنية للمطرب الشعبي (طاهر الأحسائي: ثلاث رايحات الصالحية.. في شارع عبد ربه قابلوني). فجأة تقلص وجه الرجل، وراح يخز السائق بنظراته المعاتبة، وكاد يمد يده ليصفعه، لكنه كان متماسكًا، ثم راح يتحدث بإنجليزية لم نفهمها، لا أنا، ولا صاحبي يوسف، ولا حتى السائق، إنما فهمها الراكب الهندي.
ورحت أتصفح المجلة، وإذا بي أجد قصة «موت موظف» للروائي أنطون تشيخوف، التي تروي حكاية إيفان تشر ياكوف الذي كان جالسًا في الصالة، ثم عطس، ويبدو أنه بلل بعطسته الجنرال بريزجالوف.. وراح يصور الكاتب أنطون ما حدث بعد ذلك بأسلوب ساخر، لا يمكن أن تملك نفسك دون أن تضحك، كما حدث لصاحب العطسة الذي لم يملك نفسه خلالها.
فرحتُ أضحك بدرجة جعلت عيون أربعة ركاب (تتطلع في وجهي) عدا السائق؛ إذ كان ينظر لي من خلال مرآة السيارة باستغراب. وفجأة قال الرجل بحدة: «ليه تضحك بهذه الصورة؟». فأجبته: «حكاية في المجلة جعلتني أضحك. اسمح لي، ما قدرت أمسك نفسي». تنحنح الرجل بأسلوب غير المصدق، وقال: «ما أصدق. أنا أقرأ في مكتبة الشركة بالعربي والإنجليزي قصصًا ونوادر لجحا وأشعب وغيرهما، لكن ما عمري ضحكت بهذا الشكل». قاطعته قائلاً: «طيب، ممكن تقرأ هذه الحكاية، ونشوف تقدر تمسك نفسك ولا لا؟ على أية حال جرب لو سمحت». فناولته المجلة، وراح يقرأ ويقرأ، وما هي إلا دقائق وإذا به يضحك، ويواصل الضحك بصورة جعلت عدوى الضحك تسري بيننا جميعًا، حتى الراكب الهندي (كويان).