د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** لم نبلغ العشرين من العمر أو لم نكد حين قال صديقنا إن خاله (ياسر الروقي) المذيع في إذاعة الكويت موجود في الرياض حاليًا، ولم نصدق؛ فهل يُعقل أن النجم الإذاعي الكبير بالقرب كما هو بالقلب، وكان صاحبكم من معجبيه عبر برامجه الشعرية الآسرة.
** عرضْنا (ابنُ خالي وصديقي عبدالله الرعوجي وأنا حيث نسكن معًا) على «حمود» استضافة خاله ببيت «العزوبية» المتواضع في حي المعاهد بالجَرَّادية -جنوب مستشفى الشميسي-، وبمقدار ما كان العرضُ صادقًا فلم نتوقّع أن يُؤخذ بجدية؛ فالسكن -موقعًا وواقعًا- لا يحتمل هذا البذخ بمستوى الضيوف، والأحوال لا تأذن بمكانٍ أرقى كفندقٍ ونحوه، والمفارقة تأكيد الصديق حمود غازي العتيبي -أسعده الله حيثما وأينما كان- أنه سيحضر مع خاله على الغداء، ويبدو أن حداثة العمر وقلة الخبرة ومفاجأة المناسبة جعلتنا ننسى تهيئة مائدة تليق بتلك القامة، واكتفينا -كالعادة- بمنتج مطبخنا العزوبي المتواضع فلم يزد على «كبسة دجاج» والسفرة على الأرض!
** لم ننشغل بأمور الضيافة -التي لا تستحق اهتمامًا أصلًا وفصلًا- بل بتأمل هذا الوسيم القسيم الشهير الجهير والإنصات له وهو يحكي عن لقائه بوزير الإعلام حينها الدكتور محمد عبده يماني -عليهما رحمة الله- واقتراحه عليه العودة إلى إذاعات الوطن، وتحديدًا إلى إذاعة جدة التي استقر بها لاحقًا، وبالرغم من سوء ضيافتنا «شكلًا» فقد قدّر أستاذنا الكبير - فيما يبدو - ضيافتنا «معنى» فتبسّط كثيرًا لدرجة نقله تفاصيل حديثه مع الوزير وكيف كان استقباله حفيًا، وزاد تواضعُ هذا الرمز الإعلامي النابه باستشارتنا عن مدى مناسبة المرتبة التي أبلغه عنها الوزير، والظن -والذاكرة غير العذراء تَضل وتُضل- أنها المرتبة السابعة، ورجاه صاحبكم أن يقبل كي يكون إلى جماهيره أقرب، وإنما عنى بالجماهير نفسَه ولو لم يُشهر!
** استدار به وبنا الزمن فلم نره بعدها، وكان لقاؤنا الأول به هو لقاءَنا الأخير؛ فقد عاد ياسر الروقي كما تقرر، وصار مذيعًا ضمن مذيعين، واعتدنا التعامل مع الموهوبين كما نصنع مع الموهومين؛ فـ»كله عند العرب صابون» -كما يقول المثل الذائع- وغاب صوت ياسر وتوارى صيته كما انطفأ -زمن وهجهم- معظم الرواد الإعلاميين من إذاعيين وإداريين وفنيين؛ فالاحتفاء بالاختفاء قاعدة والاعتناء بالوفاء استثناء، وهجَس صاحبكم: ماذا لو ظلَّ حيث كان؟ ولماذا نموت قبل الممات؟
** يبقى الدعاء بالرحمة والغفران لأستاذنا ياسربن مخلد الذيابي «الروقي» العتيبي «82 عامًا»، وعزاؤنا وجود مروياته الشعبية عبر «اليوتيوب»؛ إذ ظلَّ صوته فتيًا وإلقاؤه فاتنًا ومحفوظاته عامرة غامرة، ومع الدعاء استفهام: كم هم الأحياء الأموات في مقابل الأموات الأحياء؟ ولمن تصفو الذاكرة ويطيب الذكر؟
** الحياة لا تجامل كما الأحياء لا يتجمّلون.