د. فوزية البكر
قبل أسابيع قليلة زفت أكثر من 25 جامعة حكومية وأكثر من 12 جامعة أهلية ونحو 29 كلية أهلية منتشرة في شتي مناطق المملكة مئات الآلاف من الخريجين الجدد الذين سيبدؤون حياتهم الشخصية والأسرية ولاحقًا العائلية بكثير من الشغف والتطلعات الشابة التي تحلم بمستقبل مشرق مليء بالنجاحات والتحديات التي نتمنى أن يكونوا قادرين على مجابهتها.
إحدى الوسائل التي تسعى الدول فيها إلى تحفيز الخريجين الجدد هو توديعهم في حفل تخرجهم بكلمات شخصيات مؤثرة تبقي معهم طوال حياتهم.
في هذا السياق درجت الجامعات الأجنبية والأمريكية تحديدًا على استضافة شخصيات ملهمة في حفل تخرجها السنوي وذلك من أجل تحفيز خريجيها وتقديم النصائح والإرشادات والحكم المستقاة من الخبرة المباشرة للمتحدث كي تساعدهم على استقبال عالم جديد يضج بالمتغيرات ولهذا تسمى هذه الخطابات حرفيًا (خطابات البدء) وتعنى إشارة البدء في خوض غمار مراحل جديدة في حياة الخريجين بما ستضمه من محطات حاسمة في حياتهم الشخصية والمهنية والعائلية.
ولأهمية الحدث تحمل مسؤولية أختيار المتحدث في الأغلب على مدير الجامعة كمسؤول أول بمساعدة اللجان العاملة بالطبع فمثلاً في معهد الام أي تي أحد أهم المؤسسات العلمية في الولايات المتحدة التي زارها سمو ولي العهد محمد بن سلمان في زيارته الأخيرة لمدينة بوسطن تعمل اللجان العليا ومساعدي المدير واللجان الطلابية لوضع قائمة محتملة بمن يمكن دعوتهم لهذا الاحتفال المهيب نهاية كل عام الذي يكسر قالب الرسمية والملل المعهود لحفلات التخرج الرتيبة كما تجري في العادة في بلادنا حيث تتحول هذه المناسبات المتميزة والأخيرة في حياة الخريجين إلى حفلات رسمية منشأة يتذكرها الطالب لأنها تمنحه شهادة العبور لعالم مختلف لكن هل تترك صدى يفتح عليه عينيه كل صباح بعد أن يغادر الجامعة لتلهمه في مشواره الحياتي الطويل؟
من أشهر هذه الخطابات في معهد الام أي تي ذلك الخطاب الذي قدمه تيم كوك الرئيس التنفيذي لشركة أبل عام 2017 حيث لخص من خلاله أهم العوامل التي خلقت منه ومن شركته نماذج خارقة للعادة ولهذا فقد تحدث للطلاب مذكراً إياهم بأنهم حين يغادرون لبدء حياتهم الجديدة فستكون هناك أيام يسألون فيها أنفسهم: إلى أين يتجه العالم؟ ما هو الغرض؟ ما غرضي أنا في الحياة؟ وقال: سألت نفسي هذه الأسئلة قبل عشرين عاماً وهي من قادتني إلى شركة أبل التي كانت تعاني الفشل وجاءها ستيف جوبز الذي قاد حملة سماها: (فكر بشكل مختلف) لضم هؤلاء الناس الذين لا يفكرون بطريقة عادية والمجانين والمتمردين أي من يفكرون خارج الصندوق وكنت واحداً منهم ممن حمل شركة أبل إلى عنان السماء كما نراها اليوم. قائدي وشركتي كان لديهما الوضوح والشغف في أهدافها: إن تكون قادرة على خدمة الإنسانية. تذكروا ذلك: خدمة الإنسانية.
كان مديري ستيف جوبز يعتقد أن التكنولوجيا (التي لم تكن قد خلقت بعد آنذاك) ستخلق عالم الغد وهو ما وجدت نفسي فيه. لذا فإن السؤال الذي آمل أن تمضوا قدماً لتحملوه من هنا هو: كيف ستخدمون الإنسانية؟
أكَّد تيم كوك في خطابه التاريخي هذا أن التكنولوجيا اليوم هي جزء لا يتجزأ من جميع جوانب حياتنا وفي معظم الأوقات تكون قوة للخير لكن النتائج السلبية المحتملة لها تنتشر للأسف بشكل أسرع مثل التهديدات للأمن العام وللخصوصية الفردية والأخبار المزيفة ووسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت معادية للمجتمع وهكذا فحتي التكنولوجيا التي انتجناها كما قال لتقرب بين البشر هي من يفرقهم اليوم.
أكَّد كوك بأنه ليس قلقاً من الذكاء الاصطناعي الذي يعطي الكمبيوترات قدرة على التفكير مثل البشر لكنه أكثر قلقاً بشأن تفكير الناس مثل الكمبيوتر بدون قيم وبدون عواطف ومن غير التفكر في العواقب التي قد تؤثر على البشرية.
أكَّد أنه ومهما كانت الأهداف التي يريد الخريجون للوصول إليها فلا بد أن يغمسوها ويغلفوها بالإنسانية التي أوجدها الخالق في كل منهم وهذه مسؤولية هائلة في أعناقهم.
قال كلمات بسيطة جداً لكنها أبكت الخريجين: ذكرهم بضرورة أن لا يدعوا الضجيج من حولهم أن يحرفهم عن مسارهم (ضجيج تويتر مثلاً، العائلة، خلافات الجيران الخ) وأن يتجنبوا التورط في جوانب الحياة التافهة (مضاربات، حوادث طرق، عصبية) بل يجب أن يركزوا على أهدافهم الأساسية وألا يستمعوا إلى المتصيدين بل يقيسوا قدرتهم على التأثير ليس بحجم محبيهم بل بحجم التأثير الذي يحدثونه في حياة البعض وبما يستطيعون تغييره في عالم اليوم ودعاهم إلى استخدام عقولهم وقلوبهم معًا لهدف أساسي وهو خدمة الإنسانية بحيث تتقاطع التكنولوجيا مع البشر لخدمة البشرية جمعاء.
مثل هذه الرسائل الإيجابية هي ما نحتاج أن نرسله لخريجينا الشباب ليكونوا مختلفين ومبدعين لخدمة بلادهم والبشرية عامة وليتمثل كل واحد فيهم مسؤولياته العامة مثل ما يستشعر مسؤولياته الخاصة تجاه نفسه ووطنه والعالم أجمع وليعرف أن التفكير المختلف ليس عيبًا وليس خروجًا على المألوف إذا كان في صالح الإنسانية وأن يتجنب الانصات للرسائل السلبية وما أكثرها ويستقبل الرسائل الإيجابية التي ليتنا سمعناها حين تخرجنا بدل التخويف والعويل والتهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور.
الآن: ما الرسالة التي تود أنت عزيزي القارئ أن توجهها لخريج جديد تعرفه؟