«حكاية الطواويس» تلكم القطعة الأدبية التي سطّرها يراع أستاذنا خالد المالك في مقالته المنشورة يوم الثلاثاء الثامن من شهر مايو، وحملت في ثناياها جملة من الرسائل المباشرة وغير مباشرة إلى «الطواويس»، ومن على شاكلتهم الذين لبسوا ثياباً أخرى بعد تسنمهم الكرسي معتقدين أن تلك «الكراسي الوثيرة» دائمة، ومتناسين أنّ الدائم هو الله سبحانه وتعالى.
إنّ «حكاية الطواويس» لم تنته فسيليها حكايات يسطّرها الزمن لتلك الفئة من البشر ممّن أعماهم الانخداع بالكراسي الوثيرة عن التعامل الحسن مع الناس، وزاد غرورهم مع الكذب بلا خجل وحياء، ومثل هؤلاء قد تجد عنده مركّب نقص يغطّيه بمثل هذه التصرّفات اللا إنسانية.
ترى لماذا يتغيّر بعض الأشخاص عندما يتولون مناصب كبيرة؟ وهل حقاً أن للكراسي التي يجلسون عليها في مواقع المسؤولية سطوة تفرض على هذا المسؤول أو ذاك سلوكاً يجعله ينأى بنفسه عن أصدقائه وأقاربه، وربما يصيبه بالتعالي والغرور المقيت؟!
الوقائع تؤكّد أن هذا يحدث لعدد كبير ممن يصلون إلى الكراسي الوثيرة في المناصب المهمة، حتى إن أصدقاء أصحاب هذه الكراسي وأقاربهم يعترفون أن التحوّل الذي طرأ على شخصية وسلوك صاحبهم بعد أن تربع على الكرسي المهم، جعله في نظرهم كما لو أنه أصبح شخصاً غريباً عنهم تماماً، لم يسبق لهم معرفته، أو لم تربطهم به علاقة حميمة اسمها (الصداقة) أو حتى (القرابة)، فصاحبهم الذي كان متواضعاً، ودوداً، دائم السؤال عن أحوالهم، أصبح فظاً غليظاً يتهرّب منهم إذا قصد أحدهم مكتبه، أو يقابلهم بجفاء إذا تمكنوا من الوصول إليه.
وحتى لا نقع في دائرة المبالغة والتعميم، يجب أن نذكر أن عدداً ممن وصلوا إلى أعلى المناصب، وجلسوا على أفخم الكراسي، لم يقعوا في مثل هذه الدائرة، ولم تحجبهم كراسيهم ومناصبهم ومشاغلهم عن أصدقائهم، وأهليهم، وربما أي إنسان عادي لا تربطهم به صلة ولا تجمعهم به مصلحة، وهؤلاء فقط هم الذين يدركون أن المناصب زائلة، وأن هذه الكراسي الوثيرة ما كانت لتصل إليهم لو أنها دامت لغيرهم ممن سبقوهم في الجلوس عليها، ومثل هذا الإدراك لا يتأتى إلا لأصحاب النفوس القوية، والعقول الواعية، التي ترى في المنصب المهم والكرسي الوثير مسؤولية يجب القيام بها على أكمل وجه، وليس وسيلة للتكبر، والنظر إلى الآخرين من أعلى.
وللأسف فإن بعض من اغتروا بالكراسي، وأدمنوا الجلوس عليها، انشغلوا بالمظاهر والشكليات عن القيام بالمهام التي أوكلت إليهم، والتي جاءوا لتحقيقها، فنجد كثيراً من هؤلاء لا يقوم بعمله كما ينبغي، ظناً منه أن المسؤول الكبير لا يعمل، بل الآخرين فقط، الأقل منه في حجم الكرسي أو من لا يملكون كراسي هم المطالبون بالعمل.
وكثيراً ما سقط أمثال هؤلاء المغرورين بكراسيهم في دائرة التقصير، أو الإخلال بمهام المناصب التي يشغلونها، وربما ما هو أكثر من ذلك من مخالفات ربما تنتهي بهم أسوأ نهاية، بخلاف سوء السيرة بين الناس، وسوء العاقبة.
وهناك بعض البشر الذين إذا تسلّموا كرسي الإدارة في وظيفة ما، فإن الغرور يناله، والعناد يصبح مطيته، ويساهم بتعطيل مصالح الناس ومنافعهم يرفع أنفه إلى السماء غروراً وكبرياء، وكأنه لا يوجد على سطح الأرض من يدانيه ويماثله، ينظر إلى مراجعيه بتعال وكبرياء وخيلاء، ويحاول تعقيد معاملات الآخرين، كي يلفت الأنظار بكثرة توسلات المراجعين له، وكأنه يتمتع بلذة تعذيب الآخرين والإساءة إليهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة!
إن حديثنا عن الكرسي يجرّنا بالتأكيد للحديث عن الإدارة، فالإدارة هي المضمون، والكرسي هي الاسم والمظهر، والإدارة بصفاتها السلبية والإيجابية هي التي تجعل الكرسي سلبياً أو إيجابياً، إن الإدارة تعتمد بشكل أساسي على مؤهلات وقدرات الإنسان التي منحه الله تعالى إياها لتسخيرها لخدمة عباد الله تعالى، وتعتمد أيضاً على المهارات التي يكتسبها الإنسان بالعلم والمعرفة والدراسة، ومن ثم تعتمد على الخبرة التي يكتسبها الشخص أثناء ممارسته لمهامه وأعماله، والناتج إن كان كما نتوقّع فإنه لا بد أن يكون عبارة عن إدارة بذوق رفيع، وستكون عبارة عن لوحة فنية رائعة تسر صاحبها، وتسر الرعية بإذن الله، والعكس بالعكس بشكل مؤكد.