عبده الأسمري
من المستحيل أن يمر يوم دون أن تقلب الذاكرة في عقل كل إنسان آلاف الصور والمواقف لتجذب صاحبها نحو النكوص إلى لحظات ماضية ولقطات مؤرشفة في تاريخ السنين.. يعزف الوقت على تقاسيم الأماكن وتنزف الأنفس في غياهب «الأزمنة» وتتأمل الأرواح بالسرور مواقف الخير وتتألم بالحزن في سوءات الشر.. تمر على ذاكرتنا مئات الوجوه بعضها لا يزال حاضرًا على ثباته.. وأخرى تغيرت وتوشحت قناع الزيف ونوع متأرجح بين الثبات والتغير والبعض ظل مزورا بائسا مقيما في «خانة التوجس».. تحضر الأفعال والأقوال في الذاكرة إما متنًا مفروضا وعناوين أبدية تماما كتسيد أبطالها في ميادين المواقف.. وإما هامشا جائلاً تتشابه مع المنتسبين لها من الهامشيين في معادلات الشقاء.
تكتظ الذاكرة بالصور والمشاهد والوقائع منها ما يسمو بك إلى الرقي وفيها ما يحيطك بدوائر الندم ووسطها مساحات من الأقوال والأفعال التي قد تسعدك أو تؤلمك..
تصر الذاكرة على حصر كل خاطرة وشاردة وواردة فتسجلها في ملفات من الصعب أن يطالها النسيان إلا إذا وضعت لها خطة نفسية ذاتية تقود الروح حيث الأمان والنفس نحو الأمن..
يتراوح البشر في تعاملهم مع الذاكرة بين أصناف عدة فالبعض يحيط ذاكرته المثقلة بالهموم بسياج من الحفظ المربوط بالتكرار فتظل الذاكرة منبعا من منابع «البلاء» ومسلكا من مسالك «الابتلاء» فيظل مرتميا في بؤر المواقف السلبية وفي محيطات الإحباط المؤلمة ويبقى قابعا في ساحات التجارب المريرة.
أما الأذكياء من البشر فمن حرص على فلترة ذاكرته من محطات السوء حتى وإن ظلت فإن استذكارها لا يعدو من باب التجربة والعبرة بها فتظل «درسا» للاستفادة لا حيلة لإتعاب النفس. وآخرون يظلون في حالة من التردد بين التذكر الشديد والنسيان المجدول وهؤلاء يبقون في وضع متأرجح ولكن الحصيف من اتعظ بغيره وجعل كفة النسيان واجبة في السوء وكفة التثبيت فرضا حين الخير.
الذاكرة هي المخزن الذي نستورد منه أفكارنا وعبرنا واعتباراتنا نحو ميادين الحياة وهو ذاته المستودع الذي نصدر منه استجاباتنا نحو المؤثرات سواء الأشخاص أو المواقف وحتى الأماكن.. لذا فللذاكرة اتجاهان وقطبان تحملان أدوات الدافعية أو الإحباط ومثيرات الأمل أو البؤس ومكامن الفرح أو الحزن..
علينا الاعتبار بما تحمله ذاكرتنا من خلال توجيه سلوكنا الذي سيقودنا حتما نحو مساحات الاقتدار أو متاهات الانكسار.. فالعقل البشري يمتلك من الإمكانات ما يبرمج الذاكرة وينظفها وينقيها حتى تسير الحياة بشكل منطقي وحتى نوجه الذاكرة لتكون أهم العوامل المساعدة في تحقيق أمنياتنا وتلبية مطالبنا.
للذاكرة صدى من الذكريات يتردد في عقولنا وقلوبنا ومدى من الاستجابات يظهر في أقوالنا وأفعالنا. وبين الاتجاهين تبقى النفس غرفة العمليات التي تمتلك سلطة القرار وصلاحية الرأي ويبقى العاقل خصيم نفسه والجاهل عدو ذاته فما بين خصام مشفوع بالتفكير وترجيح المنطق ينتقل الإنسان إلى الثبات والصحة النفسية وما بين عدواة مرتدة تنبش الذاكرة بعشوائية فتستدعي الجانب المظلم لترمي الإنسان في خبرات مؤلمة وتجارب مؤرقة يظل الصراع قائمًا فإما تحويل الذاكرة إلى مصدر نجاح ومنبع مقاومة ونقطة تحول وإما مكمن خطر ومجال قلق وموجة بؤس..
الاختيار بأيدينا وتبقى الذاكرة مساحة نحن من يتحكم فيها من خلال مؤثراتها وتأثيرها وأثرها سلبًا وإيجابا في خارطة الحياة.