د. حسن بن فهد الهويمل
الله يهب للأزمنة، والأمكنة، والأناسيَّ مزيداً من التميز. والسعيد مَن فضّله الله على صِنْفِه:- {اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}، {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ}، {إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ}، وحينئذ لا مجال للتساؤل:- {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}.
[رمضان] جزءٌ من الزمن، فضّلهُ الله على سائر الأزمنة. {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}. [وليلة القدر] جزءٌ من الشهر، فضَّلها الله على سائر أيامه.
[مكة المكرمة] وسائر المقدسات جزءٌ من المكان، فضَّلها الله على سائر الأمكنة، وضاعف أجر العمل فيها أضعافاً مضاعفة.
و[الرسل] جزءٌ من الأناسي، فضَّلهم الله على سائر الخلق. {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}، و{وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى}، {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، وليس في شيء من ذلك اعتباط، ولا مجازفة.
في الأثر: أعمار أمة محمد من الستين إلى السبعين. وهي أقل أعمار الأمم. [نوح] مكث يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين.
وفي أحاديث بني إسرائيل قيل لرجل من أُولئك عن أعمار أمة محمد، فقال: لو كنت منهم لقضيت هذا العمر ساجداً.
فكيف بنا ونحن نتطاول في البنيان، ونشيب، ويشب معنا:- [حب الدنيا، وطول الأمل].
تفضيل الأزمنة والأمكنة تمكين للأوَّابين من مضاعفة العمل، وتفادي قِصَر العمر. فالسبعون أو الثمانون فيها طفولة، ومراهقة، ونوم، وأكل، وشرب، وشهوات، وأشياء قد لا تُبقي للإنسان فضلة للعبادة.
لهذا هيأ الله لأمة محمد فرصاً ثمينة؛ لكي يُضاعف لها الأجر. فـ{لَيْلَةُ الْقَدْرِ} {خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}. وصلاة في الحرم تعدل مائة ألف صلاة.
إنها فرص تتاح لنا؛ لكي نغتنمها، ونعوض بها عن قِصَر أعمارنا.
[شهر رمضان] مَظْرُوف، سيغلق في الثلاثين منه، وسيرفع. هذا المظروف يشكِّل صفحات من مؤلف الإنسان، الذي لا يراه إلا بعد أن يقال:- [رفعت الأقلام وجَفّت الصُّحُف].
كلُّ إنسان مكلفٌ، يكتب كتابه. وهو يعرف سلفاً ما الذي خطه في هذا الكتاب:- {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا}.
هذا الكتاب الذي يحبره الإنسان بقوله وفعله إما أن يسعد به، ويباهي:- {هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ}، أو يشقى، ويتمنى على الله الأماني:- {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ. وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ. يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ. مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ. هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ}.
إذاً هناك [مال] وفير، و[سلطان] قدير في الدنيا، ولكنهما لا يغنيان يوم الحساب:- {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ}.
رمضان الذي يلملم أشياءه فرصة ثمينة، أتيحت لكل إنسان مكلف؛ لكي يغتنمها، ويملأ أيامه بما يعوض عن قصر العمر، وتفريطه في جنب الله.
إنها لحظات أخيرة، تتاح للمسوفين، فإن عرفوها، واستدركوا ما فات نجوا، وإن غرقوا في اللهو، والشهوات، وإزجاء الوقت فيما لا فائدة فيه، قعدوا مع القاعدين.
هناك [عَوَامٌّ] وجدوا آباءهم على طرائق في الصوم، والعبادة، فاقتدوا على آثارهم، وهؤلاء يبعثون على نياتهم. وعلماؤهم الذين هدوهم سواء السبيل، أو أضلوهم، هم المحاسَبون.
وهناك [علماء] شُغْلهم الشاغل تأزيمُ المواقف، وتعميقُ الفرقة، ونبشُ الخلاف، والأخذ بشواذ المسائل، وعصيان الله في أمره:- {أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}.
هؤلاء يشككون، ويُوَتِّرون، ويفرقون.
[الاختلاف] حتم:- {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}، ونقله من محيط العلماء إلى فضاءات العامة تعمد وإصرار على تفريق الأمة، وتشتيت شملها، وتشكيكها بعلمائها.
[الملك عبد العزيز] عندما استعاد الحجاز وجد في الحرم أربعة منابر، وأربعة أئمة، فجمعهم على منبر واحد، وإمام واحد، فلم يجد العلماء إذ ذاك حرجاً في أنفسهم، بل استحسنوا جمع الكلمة.
ولمَّا تزل الكلمة مجتمعة، والناس منسجمون على الفاضل، أو المفصول. رَبْكُ العامة وبلبلة أفكارهم من نزغات الأهواء، والشياطين.
وهناك [فنانون]، و[إعلاميون]، يُغَرِّرون، ويستدرجون العامة، لإضاعة الوقت، تحت أي مسمى.
تماماً مثل الإسراف في المأكولات، والمشروبات. رمضان شهر التنافس في العبادات. وأي استغلال لا يكون في هذا المجال يُعَدُّ مخالفة صريحة، وتفريطاً في جنب الله.
سنودع هذا الشهر. والخاسرون من أغلقوا ظرفه على ورق فارغ، أو ورق مليء بالخطايا.
ومع التقصير والمقترف لن ننسى نداء أرحم الراحمين:- {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}. من العقل أن نأسف على التفريط، وألَّا نقر الغفلة، وأن نتمنى دعم الروحانيات.
هذه الآية العظيمة نداء مطلق، لا يمكن ارتهانها لسبب النزول، أو القول بأنها خاصة بالمشركين الذين أسلموا، كما يقول بعض العلماء الأفاضل.
وآية أخرى أكثر (تطميناً):- {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا}. وحديث:- «إِنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا».
هذه الآيات للناس أجمعين، وليست خاصة بأحد، تمشياً مع القاعدة الفقهية:- [العبرة في عموم اللفظ لا في خصوص السبب].
لهذا من فرط في جنب الله عليه الندم، ومبادرة الاستغفار، واللجوء إلى الله {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}.
كل الذين فرطوا، وأذنبوا، أمامهم أبواب الرحمة، وليس من حق أحد استبعادها،
فكل حي لا تؤمَن عليه الفتنة، فعلينا إحسان الظن بالله {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ}.
والسعيد من تصور فضل تلك الأيام في رمضان، والعشر الأواخر منه، وليلة القدر، والليالي العشر، ويوم النحر، ويوم عرفة، ويوم الجمعة، والأشهر الحرم.
ما أوده من الغيورين تخفيف الحدة، والإرجاف، والإحباط :- {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ}، {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}.
المواجهة لا تكون من باب الورع، المواجهة بالنص البرهاني.
لا بُدَّ من الدعوة، والتخويف من مكر الله، وحسن الظن بالمسلمين المقصرين في جنب الله، المسرفين على أنفسهم.
التفريط في أيام رمضان مؤشر خسارة، ولكن من يدري.. فكم من معجب بنفسه أحبط الله عمله. وكم من مذنب خَواف هداه الله بسبب خوفه.
واجبنا الدعاء والدعوة، لا إعانة الشيطان على عصاة المسلمين. والله عاتب رسوله في دعائه على محاربي [أحد]، بقوله:- {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} لمجرد أنه قال:- «كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم».
الله الرحمن الرحيم نهى عن الاعتداء بالدعاء:- {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}؛ فلا يجوز الاعتداء في الدعاء.
في [القُنُوت] لا بد من مراعاة كلام العلماء فيه، فمن الأئمة من يُعَرِّض صلاته للبطلان، ولاسيما إذا كان إماماً لعشرات الصفوف.
الاعتداء مذموم في كل شيء، وفي الدعاء أكثر. وفي الأثر:- «إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور، والدعاء».
وعلى الغيورين تذكُّر قول الله في الحديث القدسي كما في مسلم:- «إنَّ رَجُلاً قال: والله لا يَغْفِرُ الله لفلان، وإن الله تعالى قال: من ذا الذي يتألّى عليّ أن لا أغفر لفلان. فإني قد غفرت لفلان، وأحبطت عملك».