د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
ذات ليلة رمضانية، أمام الفضائيات الفضية، وقعت على مسلسل سعودي بطله «عوض». وعوض ليس اختيار عشوائي بل هو اسم بلدي محض، مثل «مناحي»؛ أو «عوضين» و»جمالات» عند إخواننا المصريين، فله بعد فني. عوض بالطبع سعودي جاهل بقراطيسه، يعير اسمه لوافد يمني ينشئ به دون علمه مؤسسة تعمل في تأجير الفيديوهات (أيام الصحوة طبعًا) ويكوّن ثروة معتبرة يمنحها للسعودي الذي لا يعرف في العمل رأسه من رجليه، حسب المسلسل طبعًا. الوافد شهم صالح استغل التستر لصالح السعودي المغفل، وأهداه الثروة في منتهى المطاف!
قرر عوض عن جهل الاستثمار في الإنتاج السينمائي، وتبع ذلك القالب الفني المعروف لخليجي جاهل يتخبط في قاهرة الفن والتنوير. وصل عوض للقاهرة وصادف نصابًا سعوديًا أيضا يستجدي المال من كل ساكني الفندق. وصدفهم طبالاً أوهمهم أنه منتج سينمائي ودلهم على ممثلة متدنية الجمال مسرفة الغنج والدلال تدعى «كواكب»؛ هام فيها عوض من أول نظرة، وتحول فورًا لمجنون كواكب، وأراد منحها كل ما يملك ليهب صوت الضمير اليمني مرارًا يطالبه بالتعقل. كمل دور عوض في المسلسل شخصيات جانبية لنصاب سعودي، وبدوي بدائي، سخر منها بطريقة غريبة وكأنهم أتوا من قاع صفصف لا حضارة فيه ولا نماء فتفوق المسلسل على أعتى الأفلام الأجنبية التي حاولت السخرية من السعودي.
موضوع التندر على الخليجي المسافر لمصر مكرور وتحول لكليشة ميتة فقدت طرافتها وطراوتها، إلا أن الكاتب حاول إعادة الحياة له بالمبالغة في الابتذال في تصوير جهل السعودي وعجزه عن فهم أبسط معطيات الحضارة الحديثة. فالمنتج عوض يسمى، السيناريو «سيماريو» والكرفتة «كفرته» وهلم جرا!! وهو متلهف لإضاعة الثروة التي صنعها له اليمني في ساعات انصياعًا لنزوته، لولا نصح وتوجيه الوافد اليمني الذي عامله كقاصر ذهنيًا. ولتكتمل صورة عوض، مجنون كواكب الأحمق الذي تحكمه نزوته، وفي مكالمة تلفونية معها يطلب منها أن تدلعه بأن تسميه «عوعو»!! نعم «عوعو» هكذا بكل ما تحمله هذه الكلمة من تلميحات وإسقاطات سامجة أجاد الممثل في تقمصها بشكل يحسد عليه. الشخصيات السعودية بين مغفل ونصاب وبدوي جاهل قد تبرر بأمور ترفيهية فنية، وقد يفهمها الآخرون على أنها شهادة واقعية من أهلها وعلى أكبر فضائياتها، ومجازة من جهاتها الإعلامية.
النصوص والسيناريوهات الجيدة أهم مكونات العمل الفني، الإنتاج والإخراج والتمثيل جميعها تخدم النص وتنقله من نظام سيميائي يعتمد على اللغة فقط إلى نظام آخر يجمع اللغة والصورة والحركة فيتضاعف تأثيره. والكوميديا أصعب أجناس الكتابة الفنية، ولا بد أن تكون محكمة، متوازنة وطريفة وجديدة لا ابتذال ولا تهريج فيها، توازن بدقة بين المألوف المعتاد والجديد الساخر ضمن سياق عام محكم. وعندما تهدر كرامة شخوصها بإضحاك الناس المتعمد عليهم، تأتي بتأثير معاكس وتشوه العمل الفني برمته. وأرقى أنواع الكوميديا هي تلك التي تقترب من الواقع وتتضمن مفارقات ذكية تحاكي المنطق الواقعي وتبرزه بشكل جديد طريف، وهذا يتطلب فكر وقاد، وبديهة استثنائية. والفكاهة في غالب الأحيان تتمحور حول شخصية يدفع السيناريو المشاهد للتعاطف معها.
الانفصام التام بين العمل الفني والواقع مستحيل، ولو افترضنا ذلك تحول العمل الفني إلى واقع آخر غير مفهوم وغير مستساغ وغير مؤثر. والقول بأن الفن لا يرتبط بالواقع هو في حد ذاته غير صحيح وغير واقعي، لأن الفن ببساطة واقع وهو جزء من الواقع. وما لم ينعكس تأثير الصورة التي يكونها المشاهد عن العمل الفني على واقعه فلا قيمة له. وقلة من النقاد اليوم، في ظل تطور الدراسات النقدية، والثقافية، والسيمائية، تتبنى مفهوم الفن للفن أو ترى إمكانية الانفصام التام للفن عن الواقع. ونجاح كثير من مسلسلاتنا الخليجية داخليًا، بما فيها الكوميدية، يعود لارتباطها بالواقع إن مباشرة أو بالتلميح والتأويل، ويعود إلى قرب المشاهد من شخوصها التي قد تكون متمردة، أو شاذة، أو مزاجية لكنها شبه مألوفة وتوجد عادة في كل مجتمع. وتركيز الضوء على هذه الشخصيات ليس مرفوضًا، لكنه في ظل غياب شخصيات أخرى متزنة أخرى تبرز شذوذ الشخصيات في العمل الفني يسهم في تعميم هذه الصورة على المجتمع بكاملة. وفي خضم ما شاهدناه من صور عن المجتمع السعودي في مسلسلات هذا العام، ولو أجزنا لأنفسنا وصفًا عامًا لهذا الموسم الفضائي الرمضاني، لجاز لنا أن نسميه موسم «فن العوعو».