د.عبد الرحمن الحبيب
السياسة الخارجية للإدارة الأمريكية أصبحت متسقة التوجه بانسجام أفكار الرئيس مع وزير خارجيته ومستشاره للأمن القومي.. إنه انسجام الصقور، بدلاً مما كان عليه الوضع السابق من اختلاف التوجهات بين الرئيس ووزير الخارجية السابق. الآن أصبح أسلوب ترامب واضحاً في إدارة العلاقات الخارجية.. فما هو؟
هذا الأسلوب لن يكون على الطريقة السياسية الأمريكية المعهودة للصقور من الجمهوريين كما يتوقع كثيرون، فعندما نتحدث عن الرئيس ترامب فإننا نتحدث عن رجل قادم من خارج المؤسسات السياسية الأمريكية وتقاليدها المعروفة في الحزب الجمهوري أو الديمقراطي، إنه رجل أعمال من نوعية خاصة يجيد إدارة الصفقات التجارية، كما يقول عن نفسه إنه نجح في كل صفقة دخل فيها، ولم يفشل أبدا. فما هي الطريقة التي يعمل بها؟
سنرى بالأمثلة القادمة عن مواقف الخارجية الأمريكية بإدارة ترامب أنها تعمل بآلية الصفقات «الصفرية» مع فتح منفذ مغري للآخر كي يقبل الصفقة: حيث تعلن أقصى درجات المواجهة في التفاوض، ولكنها بنفس الوقت تفتح باباً لمكافأة مجزية للآخر إذا قدم تنازلات تحقق أهم المطالب الأمريكية، وليس شرطاً كلها. هذه الطريقة التفاوضية تتوعد بأقسى التهديدات بما لم يسبق للصقور أن هددوا به، لكن بنفس الوقت تمنح مكافآت هي الأوسع بما لم يسبق للحمائم أن قدموه.. إنه أسلوب مختلف عن كافة الإدارات الأمريكية السابقة من صقور وحمائم..
فمع كوريا الشمالية، رغم ما قيل من انتقادات لأسلوب ترامب الصدامي معها التي قد تقود العالم لحرب نووية.. فبعد أقصى درجات التهديد لكن مع طمأنة الزعيم الكوري الشمالي بأن تقبله المطالب الأمريكية بنزع السلاح النووي سيجلب لبلاده رخاءً وأمناً، فضلا عن تأكيد بقاء النظام. هذه الطريقة أثمرت حتى الآن، ونتج عنها أن دمرت كوريا الشمالية موقع التجارب النووية تحت الأرض، وأطلقت سراح ثلاثة سجناء أمريكيين، وعقدت قمتين إيجابيتين مع الرئيس الكوري الجنوبي والتوقف عن تهديداتها، ودعت وزير الخارجية الأمريكي لزيارتها، مع تهيئة الفرص لإجراء المزيد من الإصلاحات. وأخيراً، ثمة تجهيز للقاء قريب لقمة تاريخية تجمع الرئيسين الأمريكي والكوري الشمالي في سنغافورة.
وحتى تجارياً مع الصين، بعدما أطلق ترامب مطالبه القاسية وكادت توصل لحرب تجارية تهدد الاقتصاد العالمي، انتهت بالتوصل لاتفاقات بين واشنطن وبكين بما يرضي الإدارة الأمريكية، مما اعتُبِر «خضوعاً» من الصين لأمريكا؛ أو كما كتب نيكيتا كوفالينكو، في «فزغلياد» بعنوان «ترامب أجبر الصين على الاستسلام». حتى مع الاتفاقات الدولية كالسعي للخروج من اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، والتخلي عن الشراكة العابرة للمحيط الهادئ، والانسحاب من اتفاق باريس للمناخ.. الخ؛ فقد نشهد عودة أمريكا لهذه الاتفاقات التي هددت بالانسحاب منها أو التي انسحبت منها، كما أعلنت مراراً بأنها قد تعود لها. رئيس مركز الاتصالات الاستراتجية الروسي ديمتري ابزالوف، يقول: «إن أسلوب ترامب القاسي هذا يعمل.. وإنه يمكن أن يعمل مع كوريا الشمالية، ومع الصين، والاتحاد الأوربي، والآن الدور على إيران».
إدارة ترامب قررت المواجهة الحادة مع إيران بالانسحاب من الاتفاق النووي، وما شملها من عقوبات اقتصادية هي «أشد العقوبات صرامة في التاريخ»، ووضع اثني عشر شرطاً صعباً للعودة لاتفاق جديد. وفي نفس الوقت أوضح ترامب أنه «مستعد وراغب وقادر» على عقد «صفقة جديدة ودائمة» مع القيادة الإيرانية الحالية إذا عدلت من سلوكها العدواني. هذه الصفقة الجديدة ستشمل ليس فقط نهاية العقوبات الأمريكية، بل ترميم العلاقات كاملة، والوصول للتكنولوجيا المتقدمة والدعم الأمريكي لتحديث الاقتصادي الإيراني وإعادة دمجه في الاقتصاد العالمي، بما لم تسبقه لذلك أية إدارة أمريكية، كما يذكر الباحث الاستراتيجي الأمريكي جون هانا (مستشار سابق في الأمن القومي).
يتساءل جون هانا: هل هذا نوع من الحيل الذكية؟ ثم يجيب: «عندما نتحدث عن ترامب هنا، فكل مهارته هي في عقد الصفقات. هذا هو الحمض النووي الخاص به. الذهاب في تحديد مطالب متطرفة إلى أعلى المستويات ومن ثم التراجع لتحجيمها عند الضرورة عندما يلبي الجانب الآخر احتياجاتك الأساسية. ثم إعلان النصر والمبالغة في تسويقه». بالطبع، قد تكون الشروط الأمريكية تعجيزية، لكنها ستكون مقبولة في نطاق ترتيب الأولويات إذا قدمت إيران بعضها. على الأقل، العمل على إجبار إيران على سحب أبواقها وتقليل تهديدها الحالي للمصالح الأمريكية، وإجبارها إن أمكن، على العودة لطاولة المفاوضات والحصول على موافقة على صفقة كبرى تعالج بشكل شامل سلوكيات إيران التهديدية، النووية وغير النووية. ولكن إذا لم تستجب إيران، فستحتاج أمريكا إلى أن تكون مستعدة لمواصلة الضغط حتى يتمزق النظام، أو تُطيح به انتفاضة شعبية، أو توجد خليفة أكثر اعتدالا، حسب رأي جون هانا.
كثيرون داخل وخارج أمريكا اعتبروا أسلوب ترامب قاسياً أو حتى همجياً، وأن عالم السياسة ليس كعالم المال والأعمال التجارية، فيما اعتبره قلة أسلوباً ماهراً لتقوية النفوذ الأمريكي الذي تراجع إبان الفترة السابقة من إدارة أوباما. بغض النظر عن الانتقاد أو التأييد، فإن أسلوب ترامب يبدو أنه ينجح حتى الآن.. فسواء أعجبنا أم لم يعجبنا، فالعبرة بالنتائج.