نادية السالمي
قد لا يشع الضوء حتى وإن توغل النور في الظلام الحالك؛ فالظلام ينزوي في ركن يجده لنفسه قصيًّا عن الأعين، ولا يُقتل بل يَقتل من يحاصره كلما أمكنه ذلك.
عيب جيفارا:
كان حالمًا وجاهلًا عن عمد فليس بعد مخالطته للناس ومعرفته بطبائعهم جهل بهم، لكن الرغبة الصادقة كانت أقوى من كل عثرة، وكل صدمة أو حقيقة. والتراجع كان لا يقل عن التقدم في الخطورة؛ لهذا أكمل مشواره متعلقًا بالأمل، متجاهلًا لطبائع البشر، وبما تُحدثه به نفسه؛ فلقد عرف ما يفعل المال والسلطة من خلال رفاق النضال الذين تهافتون على السلطة بعد أن تمكنوا منها، فعاد لساحات القتال دونهم، وقال على إثر هذا: «لقد فهمت أن كل ما فعلناه قاد إلى الانتهازية». وحدثته نفسه أنه سيحترق بالظلام يومًا ما في سبيل التضحية لهذا كتب: «الطريق مظلم وحالك فإذا لم تحترق أنت وأنا فمن سينير الطريق».
وكتب لابنته: «سأبقى بعيدًا عنك زمنًا طويلًا باذلًا كل ما باستطاعتي للكفاح، وليس ذلك أمرًا عظيمًا لكنني أفعل شيئًا ما» (انتهى كلامه).
(شيئًا ما) أي صغيرًا أمام الجهل الذي يتسربل به الناس، والطمع الذي يغمرهم. (شيئًا ما) قد لا يكفي ولا يُقدر وقد يُحتقر!
رحل جيفارا منذ زمن سحيق، وترك الصفات ذاتها، والأحلام ذاتها التي من المستحيل.. أخذت بعدها وجوهرها.
قطيع من الغنم أهم من جيفارا:
عندما تم القبض على جيفارا في مخبئه بوشاية من راعي الغنم سأل أحدهم الراعي «لماذا وشيت على رجل قضى حياته في الدفاع عنكم وعن حقوقكم؟»، فأجاب: «كانت حروبه مع الجنود تروع أغنامي».
من أجل أمن هذه الأغنام حكم الراعي بنهاية مشهد جيفارا. وهذه النهاية السعيدة لأغنامه أقصى طموحه!
فلمن كانت تضحية جيفارا لرفاق دربه الذين خذلوه أم للعامة الذين آثروا الأكل والشرب على المساواة والحقوق؟!
تضحية جيفارا لم تعد عليه إلا بخلود ذكره في وجدان كل حالم، وكل عاجز، يأمل أن يثور جيفارا، ويبقى هو متفرجًا أو واشيًا.
كان جيفارا يعتقد أنه لقن العالم والأجيال القادمة سبل التضحية والإيثار؛ لهذا قال لقاتليه حين سئل عن حياته والخلود: «أنا لا أفكر إلا في خلود الثورة، أطلق النار إنك لن تقتل إلا رجلًا واحدًا».
باءت بالفشل أحلام جيفارا، فلا جيفارا بعد جيفارا سيتمكن من العزوف عن مكاسب الثورة، ولا الثورة بإمكانها أن تحقق أهدافها مع كل هذا الظلام المتربص بالنور.
يا كل جيفارا في هذه الحياة:
الشجاعة لا تكفي لمقاومة الظلام؛ يحتاج المرء إلى عين مبصرة بطبائع الناس، وعقل بصير بتصريف الأحوال وخيانة الأنذال.. ما فائدة المقاومة إذا كانت الناس لا تريد الاستعداد حتى للفهم والتنوير؟ ما فائدة الاحتراق إذا كانت الناس لا ترى من احتراقك إلا الجنون، والسعي للشهرة.. حتى النار التي اشتعلت فيك لم يتسنَّ لهم رؤية دربهم من خلالها، ولا معرفة أن الخلل فيهم؛ وليس هذا إلا لجهلهم، والركض خلف المكاسب التي أورثتهم العمى حتى عن إنسانيتهم.
جيفارا تشبث بصدق النية في الرغبة بالعدالة الاجتماعية، لكنه لم يُحسن الطريقة، وتشبث بالصدق، وأحسن النية حين لم يرغب إلا بخلود الثورة على الظلم في كل مكان، راضيًا بالنتائج حتى وإن كانت محو ذِكره. ولعل صدقه هذا هو من نجّاه من محو أثر اسمه ما بقيت على هذه الأرض حياة.
غاية جيفارا:
«لا يهمني أين ومتى سأموت بقدر ما يهمني أن يبقى الوطن».
ويقول ألبير كامو: «بوسع النية الصادقة إن لم تكن نيرة متبصرة أن تحدث من الأضرار مثلما يحدث الخبث وسوء النية».
يعزي نفسه جيفارا، ويرفع العتب عنه وعن غيره فيقول: «الثورة يفجّرها حالم، ويقودها مجنون، ويقطف ثمارها انتهازي».