د. عبدالحق عزوزي
ما يقع اليوم من أزمات سياسية خانقة في بعض الدول الغربية مرده إلى غياب الحكمة عند الفاعلين في المجال السياسي العام لتلكم الدول رغم الإرث السياسي والمجتمعي والثقافي والحضاري والتنموي والتعليمي الذي وسمها لعقود، ففي إسبانيا قدم الحزب الاشتراكي الإسباني أكبر أحزاب المعارضة في إسبانيا، منذ أيام بطلب لحجب الثقة عن حكومة رئيس الوزراء ماريانو راخوي بعدما أدين حزبه المحافظ في قضية فساد. وقدم الاشتراكيون طلب حجب الثقة عن راخوي إلى البرلمان الذي يضم 350 مقعدًا، وذلك بعد يوم على إعلان قرار المحكمة بالإدانة.
وتواجه إيطاليا احتمال العودة مجددًا إلى صناديق الاقتراع بعد تخلي جوزيبي كونتي عن تكليفه تشكيل الحكومة إثر انهيار المحادثات مع الرئيس سيرجيو ماتاريلا بسبب رفض ضم وزير اقتصاد مشكك في الاتحاد الأوروبي. ويضع كونتي، بقراره التنحي، البلاد في أزمة سياسية بعد نحو ثلاثة أشهر من انتخابات عامة لم تسفر عن أغلبية واضحة في البرلمان. وكانت حركة «خمس نجوم» وحزب الرابطة بتسميتهما باولو سافونا وزيرًا للاقتصاد نسفتا تكليف كونتي تشكيل الحكومة. ويصف سافونا (81 عاماً) في كتابه الأخير «مثل كابوس وحلم» اليورو بأنه «قفص ألماني» ويقول إن إيطاليا تحتاج إلى خطة للخروج من العملة الأوروبية الموحدة «إذا اقتضى الأمر». وهناك احتجاجات في العديد من الدول الأوروبية، ولعل أبرزها التي يقوم بها المواطنون اليونانيون ردًا على سياسات التقشف التي تقوم بها بلدانهم؛ كما أننا بدأنا نلاحظ أزمات تعليمية وتربوية في العديد من الدول الغربية لم تعد مبنية على قواعد الانفتاح والتعايش وقبول الآخر كما كانت في السابق.
إذ ضربت في مشارق الأرض ومغاربها ستلاحظ أزمات من هذا القبيل، وإذا رأيت مشاكل مستعصية فستكتشف أن الالتزام بالذكاء والدبلوماسية السياسية والاحتكام إلى قواعد العقل السليم لم تعد قائمة. ويمكن تلخيص كل ذلك في غياب الحكمة، والحكمة هنا هي العلم الصحيح الذي لا يقبل الخطأ {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}، وهو ليس فقط في مجال الاقتصاد والاستثمار وإنما أيضاً في مجال العلوم الإنسانية، وإلا بغيابها فإن الشعوب والبلدان قد تصل إلى مستنقع غير منته من الظلمات والصراعات؛ وإذا بلغت أوجهها كما هو شأن بعض الدول العربية مثل ليبيا، ستتوقف هياكل الدولة رويداً رويداً اقتصادياً واستثمارياً واجتماعياً بل وثقافياً، وهذا طبعاً نقيض الحكمة وعنوان التخلف ومسؤولية تجاه التاريخ.
ثم إنه ضروري ونحن نتحدث عن الحكمة والإصلاح في أوطاننا أن نتوافر على أدوات ومنظومات لترسيخ قيم العقل والتسامح والاجتهاد وروح التجديد والانفتاح على الغير، ونبذ الكرة والتعصب، وتحري النسبية، والتخلي في البرامج التعليمية منذ الابتدائي والثانوي على تقديس ما تفضل به البشر أو رفعه من مرتبة هي مرتبة الرأي إلى مرتبة النص الديني الملزم. وأقول هذا الكلام لأن المدرسة هي الشركة التي يصنع فيها المواطن وتبنى فيها قيم المواطنة وهي التي تحدد إرادة أي مجتمع ونوعية المواطنين الذين نبتغيهم لمجتمعاتنا: هل نريد مواطنين فيهم روح العلم الصحيح، روح النقد والإصلاح، والبناء والتعمير، أو نريد مواطنين يطلقون طلاقاً بائناً المجتمعات المسلمة ويوجهون إليها السلاح والعتاد باسم التكفير والطاغوت؟. وللمؤسسات الدينية ولعلماء الدين دور كبير في هاته المعركة من أجل التصحيح والإصلاح، وإذا أخذنا مثلاً قضية التكفير التي عليها أصل المشكلة والمشاكل عند الداعشيين والقاعدة وأمثالهم، فلا بد من مواجهتها بتبني استراتيجية علمية دينية ثقافية؛ كما أن لصفوة المثقفين من مفكرين وباحثين وأدباء ومبدعين مسؤولية كبرى وتاريخية، لأن هم من يقع على عواتقهم أن ينهضوا بأداء هذا الدور، وإنجاز هذا المشروع الثقافي التنويري، لأنهم حملة الأفكار ومنتجوها. لكن ضمان نجاحهم في أدائه يتوقف على ما يمكن للدولة أن تقدمه لهم من أسباب مادية ومعنوية مساعدة على النجاح وحسن الأداء.
فإذا صح لنا إذن أن نلخص ضرورة ما يجب الالتزام به في كل قطر من الأقطار في كلمة واحدة لقلنا أن ذلك يكمن في الحكمة، والحكمة هي التي تسقي جذور الإصلاح، وهي التي تبني المجال السياسي العام على أصول لا تحور ولا تبور، وهي التي تجعل من الفكر عقلاً ناهضًا، ومن المجتمع مجتمعًا سويًا، ومن كل الأجهزة مؤسسات تبني وتتكيف مع الواقع والمستقبل.