د.خالد بن صالح المنيف
روى الأديب الكبير عبدالوهاب مطاوع أن ثلاثة أشخاص نالت منهم الحياة وأوجعتهم ضرباتها التقوا على غير موعد فوق أحد جسور لندن الشهيرة في ليل بهيم , حيث وقف كل واحد منهم فوق الجسر ينتظر خلو الجسر من المارة لكي يلقي بنفسه في مياه النهر ويدفن آلامه ومتاعبه فيها كما كان يظن!
وراح كل منهم يراقب المارة لعل الجسر يخلو منهم في لحظة لتنفيذ ما خطط له! و فجأة ينتاب كل منهم إحساس غامض إلى أن الشخصين الآخرين تراودوهما نفس الفكرة وينتصف الليل والثلاثة مازالوا في مواقعهم، ويضيق الجميع بالانتظار، ويقرر كل منهم أن يطلب من رفيقيه الابتعاد لكيلا يفسدا عليه خطته! ويقترب الثلاثة من بعضهم ويسأل كل منهم الآخر عن الآلام، في هذا المكان الموحش في ظلام الليل .. ويعترف كل منهم للآخر بعد حوار قصير بالسبب الحقيقي لوجوده. ويرجو صاحبيه في الانصراف في هدوء. وتكشف تلك الحوارات أن الأول شاب عاطل عن العمل طالت فترة بطالته وتراكمت علية الديون، وتأخر في دفع إيجار شقته وفواتير الغاز والكهرباء ويأس من تغير الحال فقرر الانتحار.
ونعرف أن الثاني رجل متوسط العمر أصيب بمرض خطير، وصارحه الأطباء بخطورة مرضه لكي يستنفروا إرادته للمقاومة فلم يقاوم، وقرر ألا ينتظر الأجل المحتوم وأن يسعى هو إليه باختياره.
ونتبين أن الثالث كهل لا يعاني من مشكلة مادية ولا مشكلة صحية، ولكنه متزوج من زوجة صغيرة السن تخدعه وتتركه كل ليلة وحيداً يعاني من وحش الغيرة. ولا يجرؤ أيضا على طلاقها.
ويتبادل الثلاثة الحديث عن همومهم وقد جمعت بينهم الآلام، وأحس كل منهم بتعاطف غريب مع صاحبيه. ويكتشف كل منهم أن لديه القدرة على أن يناقش مشاكل الآخرين بمنطق جديد لم يكن يفكر به في مشكلته هو!
فيقول الشاب العاطل للرجل المريض: ولماذا تحاول أن تتمرد على أقدارك وتضع بيديك نهاية لحياتك؟ ولماذا لا تعطى الطب فرصته الكاملة لعلاجك وكل يوم يظهر جديد في الطب.
ويقول الرجل المريض للكهل المخدوع: ولماذا تعاقب أنت نفسك على جريمة ترتكبها زوجتك؟ إنك تبدو رجلاً متزنا ولطيفا فلماذا لا تنفصل عن هذه الزوجة التي لا تستحقك؟ وتنظر إلى الأمام بتفاؤل إلى أن تلتقي بسيدة متوسطة العمر تحبك وتسعد بك؟
ويقول الكهل المخدوع للشاب العاطل: وكيف يسلم شاب مثلك باليأس من الحياة بهذه السهولة مهما كانت الآلام والمتاعب؟! لا شك أن هناك جهة ما تحتاج الآن إلى عملك لكنك لم تهتد إليها بعد! وتستطيع بكل تأكيد أن ترجو صاحب البيت أن ينتظر شهراً آخر إلى أن تتحسن أحوالك, ويتفق الثلاثة على أن يؤجلوا قرارهم بالانتحار لمدة يوم آخر على أن يلتقوا في نفس الموعد في مساء اليوم التالي في نفس المكان فإذا لم يكن تغير أي شيء في نفوسهم أو ظروفهم نفذوا معاً قرارهم السابق بالانتحار وينصرف الثلاثة على وعد باللقاء.
وجاء المساء فوجد كل منهم نفسه حريصا على الوفاء بموعده مع رفيقي الظلام واليأس فاتجه الكهل إلى الجسر(وقد نام ليلته بغير أرق طويل وفي الصباح خرج إلى عمله وهو ينظر إلى زوجته نظرة جديدة يقول لنفسه لأول مرة : العار هو عار من يغدر وليس عار المغدور به وحبك الذي كان يشل إرادتي ويشعرني بالهوان معك ليس بالقوة التي كنت أتخيله بها وسوف يأتي يوم قريب أتخلص فيه من ضعفي وأنبذك من حياتي).
فوجد الشاب العاطل ينتظره (وقدا كتشف أن صاحب المنزل الذي يقيم فيه ليس بالقسوة التي تخيله عليها وقد قبل رجاءه بالصبر ) فتبادلا التحية في حرارة وتشاركا الحديث في اهتمام وسأل كل منهما الآخر عما جد في حياته وأفكاره واتفق رأيهما على أن متاعبهما ليست نهاية العالم وأن هناك على سبيل المثال من هو أكثر منهم تعاسة منهما.
مضى الوقت ولم يحضر صاحبهما! وتلفتا حولهما يبحثان عنه وهما يواصلان الحديث وطال انتظارهما له ثم نظر كل منهما إلى الآخر في اتفاق صامت على أنه لن يجيء لأنه رجع غالبا إلى نفس المكان المظلم بعد انصرافهما منه في الليلة الماضية واستسلم لليأس مرة أخرى فانطوت صفحة حياته.
وقبل أن ينصرف كل منهما في اتجاه مختلف يسأل الشاب صديقه الجديد: ترى لماذا مات صديقنا بعد أن تفاهمنا أمس على تأجيل موعد الانتحار؟
فيجيبه الكهل بعد تفكير: لأنه تمسك بظلام الليل واليأس ولم يعط الصباح فرصة لكي يطلع!
وفي نهاية القصة ينصح عبدالوهاب مطاوع كل يائس محبط استلم لظلمة القنوط ولفه ظلام ليل موحش ويقول له : أعطِ الصباح فرصته دائما يا صديقي لكي يغير الأحوال والظروف التي نشكو منها بجهدنا الدؤوب، فقد نتغير نحن ونصبح أكثر قدرة على تحملها والتصالح معها، أو ربما نسعد بها أو أن نبدأ منها رحلة التغير!
وأقول : إن الكثير ممن حولك لا يملك جاها ولا منصبا ولا مالا وربما فقد بعضهم الصحة؛ هولاء لا يملكون في هذه الدنيا غير الأمل فأرجوك لا تقتله فيهم! بل لتكن من أولى مهامك زرع بذور الأمل في الأرواح المنهكة التي أوجعها المسير وقد أصاب راجي الراعي كبد الحقيقة عندما قال: أعظم القتلة هو قاتل الأمل!
وإبان الحرب العالمية المدمرة والتي أوشكت فيها بريطانيا على الهزيمة والدمار ولكنها قلبت الطاولة على ألمانيا بفضل القائد الملهم تشرشل والذي سأله أحد الصحفيين البريطاني عن أقوى الأسلحة التي ساهمت في صد بريطانيا للهجوم النازي الرهيب والتي احترقت معه أجزاء كبيرة من لندن فرد تشرشل ودون تردد: إن سلاح بريطانيا الفتاك هو الأمل!
وما نحن دون رعاية ثم الأمل , حياة مشبعة بالأوجاع عامرة بالهموم , ضغوطات وخيبات ولولا الله ثم الأمل لكن فريسة للحياة تنهشنا دون رحمة أو رفق!
وفي هذا الشأن حكى المسيري رحمه الله قائلا: كانت الثالثة ظهرا عند جامع ابن طولون في الأسبوع الأخير من رمضان، ظل السائق الذي يقف ورائي بسيارته يضغط على صوت منه السيارة ويطلب أن أتقدم «عجلة قدام بالله» أي مسافة صغيرة جدا تعادل مدار عجلة واحدة فقلت له: كلنا واقفون، فلم أتحرك هذه المسافة الصغيرة؟ فأجاب: «عشان تديني شوية أمل! ببساطة وعفوية توصل هذا السائق البسيط عن سر الحياة الأجمل وترياق الألم الأقوى أنه الأمل!
الأمل يحيي النفوس وينعش الأرواح ويضيء الزوايا المظلمة ويجعلنا أقوى من ضربات الليالي, وفي صفحات الأمل ما يكفي من القوة لقطع المسافة الطويلة من المكان الضيق إلى المكان الرحب والوسع ثق بهذا !