شريفة الشملان
القرقيعان هو احتفال في الأيام البيض من رمضان، كان معروفا في العراق والخليج العربي والمنطقة الشرقية من بلادنا ولا زال، انتشر في مناطق أخرى تحت مسميات أخرى، فانتقلت هذه العادة الرمضانية حيث تمازجت الثقافات الشعبية مع بعضها البعض..
قبل أن أسترسل يجب أن أتحدث عما هو القرقيعان. في الليالي البيض من شهر رمضان المبارك، الأطفال في العراق وبالأخص البصرة والخليج يخرجون لينشدوا أناشيد خاصة تختلف من مكان لآخر، يطوفون بالحواري والأزقة. أناشيد تمجد برمضان وتدعو لأطفال البيت بطول البقاء ويبلغ الله أهل البيت بحج بيته، تطالب بالوقت ذاته بإعطائهم الحلوى والمكسرات وما إليه، (عطونا الله يعطيكم بيت مكة يوديكم) أحيانا يظفرون بكميات كثيرة، وقد لا يكون أهل البيت الذي يقفون عنده الحلوى والمكسرات فيهبونهم نقودا من ذات الفئات الصغيرة..
يختلف الناس في أصل القرقيعان، ولكن أكثرها ترجيحا أن كبار تجار بغداد والوزراء والوجهاء أيام الخلافة العباسية -حيث كانت في أوج قوتها وكانت الخزائن معمورة بالخير- يصرفون زكواتهم في الأيام البيض من رمضان، لذا كان محتاجو بغداد وما جاورها يحضرون لتلقي الزكاة، وطبعا سيرافق الأطفال ذويهم، فتقوم سيدات البيوت الكبيرة بتوزيع الحلوى والمكسرات عليهم، وكانت أمهات الأطفال يلبسن لصغارهن أكياسا خاصة من قماش ملون مزين بالزراكش التي تنشر الفرح عليهم، هذه الحلوى والمكسرات من لوز وجوز وبندق كان لصوتها وقع جميل وهي تتصادم ببعض فتقرقع، ومن هذا الصوت الذي يطيب للصغار سماعه يُعتقد منه أشتقت منه كلمة قرقيعان. ربما هذا أصلها وربما آخر وقد يكون لكل مكان حكاية جميلة لهذه العادة التي تشبه العيد بالنسبة للصغار.
هذه العادة كما يقال ظهرت ببغداد وامتدت للبصرة فالخليج العربي والشرقية، الأناشيد تتغير كلماتها ولكن يبقى الإطار واحدا وتبقى الفرحة والزينة البسيطة تعم البيوت..
في صغري عرفت القرقيعان، كانت حاراتنا صحيح متربة، ضيقة لكن كان الأمان يشملها، ولم تكن أمهاتنا تخشى علينا، فنحن أينما نذهب قريبين، البيوت قريبة والناس معروفين لبعضهم البعض. ثلاثة ليال نلف وندور ويلف معنا الأولاد من حارتنا ومن حارات أخرى، قد يسرقون مكسبنا وقد يضربوننا لكن لنا إخوة سيظهرون عليهم ويقتصون لنا، ونعود سالمات بمكسبنا تدغدغ قلوبنا الصغيرة البهجة التي لا حدود لها. بساطة مع بساطة وأمن وراحة بال..
اليوم الخميس البارحة كانت لليلة من ليالي القرقيعان، كبرنا ورحنا نتذكر ونقارن، أصبح القرقيعان داخل البيوت المغلقة والأطفال داخلها، لا تسمع الأهازيج في الأزقة والحارات، فلم يعد الأهل يأمنون ولا الشوارع نفسها آمنة.
أيضا لم تعد تلك البساطة التي نعرفها الاستهلاك غزاها وأصبح الناس يتباهون في علب القرقيعان وأشكالها بل أصبح هناك سهرات للكبار باسم القرقيعان.. إن محافظتنا على التراث وحبه لا يعني أن نجعله مجالا للمفاخرة والتبذير وكم من أطفال يحتاجون للمسة حب ولملعقة دواء وماء الشرب النقي، وربما قلم رصاص للكتابة، جميل جدا أن نحتفل نبهج أطفالنا الذين لم تعد قطعة الحلوى تفرحهم بينما أرفف الأسواق المركزية مليئة بما لذ وطاب وما يحصلوا عليه بالقرقيعان قد يتمتعون به يوميا، ربما من المفرح أن نعود بهم قليلا لأيام البساطة وما نرصده للتباهي ممكن أن يتبرع به لأطفال محتاجين لفرحة تدفق الماء من حولهم ولعلاج يرفع معاناتهم، والمبهج في الأمر أن تقوم بعض الجمعيات الخيرية ليالي القرقيعان الرمضانية تمتع الرواد وتسعد الأطفال وتغذي مشاريعها الخيرية..
هو رمضان ينتصف وسيغادرنا قريبا بفرحه ولياليه ولمة الأهل سيفرح الأطفال بالعيد ويلبسوا جديدهم، ولعلنا نساهم بفرحة للأطفال الآخرين..