د. محمد بن إبراهيم الملحم
كلنا نعرف العلاج القائم على «التشخيص»؛ فالطبيب يشخِّص المرض وأسبابه أولاً، ثم يقرر العلاج. ولكن هل تعرف طريقة العلاج الاحتمالي؟ هو نوع من الطب، اخترعتُه أنا قبل قليل لهدف كتابة هذا المقال. وأنا متنازل عن حقوق الاختراع لمن يشاء. هو يقوم على أن الطبيب لا يشخِّص؛ لأن ذلك يضيع وقته الثمين؛ فوظيفته في هذا المجال من الطب (الطب الاحتمالي) مدتها محدودة بسنوات قليلة فقط، هكذا قضى الله عليها أن تكون! لذا يلجأ هذا الطبيب إلى تقديم علاجات «احتمالية»، هي غالبًا تنفع جسد المريض، ولن تضره إن شاء الله: قليل من مضادات الألم والفيتامينات والمقويات، مع مضاد حيوي «واسع الطيف»، أي يقضي على أغلب الميكروبات، وليس له تأثيرات جانبية مهمة. صدقوني، إن مثل هذه العلاجات ستنفع لأي مرض يتعرض له جسدك، خاصة إذا لم تكن لديك أمراض كبرى، تسبب الوفاة، كالسرطان أو القلب أو تلف الكلى.. إلخ. ولو افتتح أحدكم عيادة بهذه الطريقة، وعالج المرضى بهذه الطريقة وهذه الشروط، سيُشفى ما لا يقل عن خمسين في المئة منهم. وهذا ربما يكون كافيًا ليشعر بشيء من الفخر؛ كونه أصبح طبيبًا احتماليًّا موفَّقًا، ولو لمدة أربع أو ست سنوات، وربما يدعو لي لاختراعي الفنتازي هذا.
هذه الصورة هي نفسها حالة إصلاح التعليم العام عندنا؛ فهو مجال يتطبب فيه كل أحد دون دراسات تشخيصية معمقة، ودون أشعة أو تحليلات مخبرية، تضع يدك على مَوطن الجرح ومصدر الألم. الدواء أيًّا كان نوعه يمتصه الجسد، ويسري مع الدم؛ فيوزعه على كل خلايا الجسم، فإذا وصل إلى منطقة الألم (التي لا نعرف أين هي) سيخفف الألم، أو ربما يقضي عليه.. متى يمتص؟ ومتى يصل إلى تلك الخلايا؟ هذا يأخذ ساعات أحيانًا كما نعلم ونخبر في تعاطينا لهذه الأدوية.. والأمر نفسه في علاج أدواء الممارسات التعليمية؛ فوصول العلاج يحتاج إلى ساعات مماثلة، لكن هذه الساعات هنا بالنسبة لجسد التعليم الضخم تُعادل سنوات. الطبيب الذي يبذل مزيدًا من الجهد بتحديد مَوطن الإصابة بالضبط سيضع عليه مرهم مباشرة إن كان خارجيًّا، وإن كان داخليًّا ربما يرسل له دواء، أو تدخُّل دوائي، يصل إليه بسرعة في منطقته التي يؤثر فيها. وإن كان الأمر أكبر أو أعمق من ذلك سيقرر أن يعمل تدخلاً جراحيًّا، وفي بعض أنواعه يتضمن الاستئصال مثلاً. هذه إجراءات تسرِّع من الشفاء كما نعلم، وليت شعري، فإن جسد التعليم المريض لا يختلف عن جسدي وجسدك إذا مرض؛ فهو يحتاج إلى الإجراء نفسه. الطب الاحتمالي (اكتشافي العظيم) يعمل منذ سنوات في جسد التعليم لدينا، فماذا أثمر؟ لقد نفعه - بلا شك - في جوانب هنا وهناك، وتلك الفيتامينات والمقويات وبعض المضادات الحيوية نرى لها بعض الأثر المفيد (وبعض الآثار الجانبية)، وربما هي التي أبقته على قيد الحياة إلى الآن! ولكن أعراض المرض الأساسي لا تزال موجودة ماثلة أمام أعيننا، أي أن مريضنا يدخل المستشفى ويخرج وهو يحمل معه المرض نفسه، ثم يقرر طبيب «احتمالي» جديد جاء إلى المستشفى إدخاله مرة أخرى، ويأتي المسكين، ويخضع للتنويم، وأخذ العلاجات بأنواعها، ثم يخرج كما دخل.. ترتفع طاقته أحيانًا بسبب الفيتامينات والمقويات التي يأخذها في هذا المستشفى، لكنه لا يزال يكح ويسعل بمرضه الأساس نفسه. أحيانًا يأتي للمستشفى مجموعة أطباء «احتماليين» أيضًا، ويقررون كفريق أن ما عُمل في السابق ليس كافيًا؛ فيستدعونه للدخول مرة أخرى؛ فلديهم هذه المرة إجراء أفضل. ويدخل المسكين؛ ليخضع لهذا العلاج الجديد، وربما عملية جراحية، لكنها بدون تخدير، ولا تُجرى حتى في غرفة العمليات؛ فالاستعدادات لا تتم، ولا وقت لديهم لتجهيز غرفة العمليات (هذه طبيعة الطب الاحتمالي السريع كما قلتلكم)، ثم يخرج هذا المريض من المستشفى بعد يومين من العملية وهو أيضًا يسعل، ولكن هذه المرة قد يسعل دمًا. كل من يعملون في التعليم تصوروا معي في كل صورة أوردتها هنا أي «المشاريع» وأي «القرارات» وأي «المبادرات» التي عايشوها في مواقعهم المختلفة صُرفت من صيدلية الطب الاحتمالي (اكتشافي العظيم).