ضعف جذوة الوعي بالذات:
ما إن ينطق الطفل بجمل مفيدة حتى يبدأ بطرح أسئلة لكشف ما غمض عليه من جسده، ومن الأشياء من حوله. وقد لا يتلقى تعليماً مناسباً يعزز حب الاكتشاف لديه، ويثير فضوله، فيشب الطفل وهو لم يكتشف بعد ما يدور بداخله. يحتاج بعدها للاصطدام بتجارب حياتية كثيرة، لا يتعامل معها إلا من منظور ردات الفعل، وذلك لأنه لم يعثر على «معلم ما» يدله لاتجاه الطريق.
وببدايات الطريق، عليه أن يكتشف ذاته أولاً. وذلك بالإدراك الواعي، لما يدور بداخله، لا بالجسم وحده من الأنظمة الفسيولوجية، أو ما يشير الى الاعتلال، كارتفاع الحرارة، بل بالوعي بالمشاعر، الأفكار، وتمييز الاحتياجات، وتحديد النوايا، والانتباه للحدس، وتقييم ردود الأفعال، وربط الأسباب بالنتائج، وكشف الدوافع الكامنة وراء الأهداف والقرارات...
ولكن لماذا الوعي بالذات أولاً؟
- لأنه أحد أبرز معايير التفاضل بين الإنسان ونفسه، وبين أمسه ويومه.
- بالوعي بذواتنا نملك حصانة قوية تحول دون غزونا من الخارج؛ لأننا نُسَلّم بأن عدونا لن يلج من الأبواب المحكمة.
- إن الوعي بالذات الناجم عن التفكر في النفس، والتبصر في الذات، فريضة دينية، وتجربة روحية، وضرورة فكرية.
- إن الوعي بالذات ينقذنا من مصايد الحيل اللا شعورية، والاسقاطات النفسية، التي نلجأ إليها للتخلص من الشعور بالمسؤولية تجاه كثير من المشكلات التي قد نكون طرفاً فيها.
- إن فهم الذات، يلمع العدسة الداخلية، ويصقلها لنتمكن من تشخيص الدوافع ومن ثم، إدارة ذواتنا، وفقاً لآلية التفكير الواعي، فيسهل علينا تحليل كثير مما قد يصدر عنا من سلوكيات غامضة، وأفعال شاذة. فإذا كانت هذه بعض أسرار الوعي بالذات، فلك عزيزي القارئ تصور حجم الخسارة التي منينا بها من جراء التشاغل بإصلاح الخارج، عن فهم ما يدور بدواخلنا.
ولقد كشف القرآن كثيراً من أسرار مكونات النفس البشرية, منها النفس اللوامة التي تحتل حيزاً كبيراً في لجم الجنوح الإنساني{وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} والنفس المطمئنة التي هي نتاج التوازن {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ}.
وفي مواقع أخرى نجد فضحاً لتقلب الدوافع، ومن ثم تلون السلوك البشري، تبعاً لاختلاف الحاجة.
إن الجهل بما يدور بالذات، يقف خلف كثير من الاسقاطات النفسية، منها: إن من يتتبع الناجحين، بالتلويح بالاتهام، وتجييش العواطف ضدهم.. متظاهراً بتفوقه عليهم في عمق الفهم، ومرونة التفكير، لو غاص بعمقه لعثر على ألم قابع.
والذي يتعمد السهر لساعات متأخرة بصحبة رفاقه قد يجد من القبول برفقتهم ما يفتقده لدى عائلته. وربما قابلت شخصاً لا يستقر في مكان واحد، يتظاهر بالأنس والبهجة، وهي حيلة للهروب من مواجهة الذات التائهة.
وقل مثل ذلك فيمن يعيش خاملاً هملاً، تمضي حياته رتيبة، مملة، لا روح فيها، ولا بهجة، ولا حياة، وما استسلامه الظاهري إلا تعبير عن انهزامه الذاتي، مع جهالته بقدره.
وفي عجالة نشير إلى أدوات متاحة تعيننا في فهم ذواتنا، منها:
1 - التنفس الهادئ العميق، المصحوب بالمراقبة الصامتة، تجاه ما يدور بالذات، تعد أولى خطوات التغيير.
2 - نفعل ذلك ونحن ندرك جيداً أن ما ينتابنا من منغصات، إنما هو وليد أفكار جزئية، ومشاعر هائجة، لا حقيقة لوجودها في الأصل.
ويمكننا قبولها كحالة عارضة، إلا أنه لا ينبغي السماح لها بأن تهيمن على حياتنا، وتدفعنا إلى سلوكيات غير متزنة.
3 – لا بد من ربط النجاح في فهم الذات، بالعون الإلهي، مع التبرؤ من الحول البشري، والقوة الآدمية.
وقد قيل: (إن الوعي جذوة، ولا يمكن للجذوة أن تنطفئ مهما كانت الرياح عاتية).