عبده الأسمري
عندما نضع الإنسان في ميزان الذكر وفي معادلة التأثير وفي موازنة الأثر علينا أن نضع الإحسان برهانا أول وأخير وتوقيع أبدي على قيمته في ذاكرة الغير وفي استذكار البشر عندها ستتشابه الأقوال وتقترن الآراء وفق منظور واحد .
ليس المقياس بالحضور العلني الذي قد ينقص الإحسان في جوانبه العميقة ولكن وجود هذا الإحسان خفيا متواريا في إعمال سر وأفعال مظللة بالخبيئة الذاتية يرفع من قيمته العظمى وكم من محسن لم يعرف عن إحسانه إلا بعد رحيله.
مقياس الإحسان متعدد ومتشعب وعميق وله جذور وفروع وثمار يانعة تستمطرها قلوب حزينة وأخرى مكلومة تمت سقايتها بإحسان ذاتي مقترن بأعمال قد لا تكون ظاهرة ولم يلاحق صاحبها الفلاشات أو الأضواء أو العلن ولكنها سارت في ظلال الكتمان وإشاعة السعادة ونثرت الفرح وأمطرت السرور في أنفس كانت في حالة «جدب إنساني» أو «قحط معنوي» أو «عدم مادي» فكان الإحسان منعطف ونقطة تحول في تاريخ إنسان وفي محفل عمر وفي سيرة حياة.
لدينا تغيرات كبرى في موضوع الإحسان وفي اتجاهاته فالبعض يؤيد أن يكون الإحسان ظاهرا من أجل نشر ثقافته وهذا لا ضير فيه وفق حدود وآخرون يرون أن يتحول إحسانهم من مستوى «الظاهر» إلى درجة «الملفت» ونوع أخير يصل بإحسانه إلى مستويات «الإشعاع « كل ذلك وفق ثقافة كل محسن ومدى ارتباطه بقيمة الإحسان وقد يتساوى في ذلك من يدفع «الملايين» جهرا وبين عامل نظافة يسقى القطط الظمأى ويؤكل الحمام الجائعة على ناصية الشوارع الخالية.. الفرق أن الأول لافتا ومن مخزن وفير والثاني سرا ومن «عدم مستطير» وهنا تتفاوت الثقافات وتتراوح ماهية الإحسان بين الأغنياء والفقراء.
مناهجنا وضعت الإحسان في أبواب محددة في مناهج الدين وعندما يستمع الطلاب إلى حصص القران فهم يخضعون للتلاوة فقط وإن درسوا في حصص التفسير فهم مرتبطين بكلمات ومعانيها فالإحسان يبقى مجدولا في «إطارات الحفظ» ولكنه لا ينقل إلى مستويات الفهم ومعاني الابتكار ولا يتم تعويد الطلاب على دروس تطبيقية حتى وان كلف ذلك زيارة لجمعية أيتام أو تنفيذ درس عملي لتعليم الطلاب بقيمة الإحسان وتفاصيله مع الآخرين بشكل توظيفي.
في المنزل والشارع والحي يبقى الإحسان في صدقات مبرمجة توزع على الفقراء والعمال وقد لا تعرف الأسرة من الإحسان سوى «زكاة الفطر» التي تخرج بشكل تقليدي دون تشرب معانيها أو جمع الملابس المستخدمة ورميها في إحدى سلال الجمعيات.. لم يتعلم أجيالنا معنى الإحسان في «قيم صدقة السر» وفي «معاني الفعل الحسن الخفي» لم تتدرب الأجيال على إحسان الجوار واحترام الآخرين وتقدير عابر السبيل ومساعدة كبير السن والعطف على الضعفاء والحنان على المكلومين ومعاونة المساكين وعلى مساعدة الصديق وعلى الدعاء في ظهر الغيب للمسافر والغائب ولم تفهم الأجيال معاني المعروف في رد الفضل لأصحابه وشكر صاحب العون والحفاظ على الممتلكات العامة وإحسان التعامل بوجه عام مع الإنسان والرفق بالحيوان وغيرها.
لدينا أزمة علنية مع الإحسان بدءا من سنوات العمر الأولى التي تركز على الدراسة الملقنة والحفظ ومراقبة سلوك الوالدين والتشبع بمقارنات المكملات مع الآخرين مرورا بسنوات مراهقة تمر كيفما أتت وانتهاء بسنوات لاحقة يكون الإحسان فيها مفهوما جائلا ولكنه لا يستغل ويبقى قيمة عامة دون الاستفادة من تفاصيلها..
الإحسان مسؤولية مركبة الأصول والفروع تتكامل فيها الأسر والمناهج وتجارب الحياة والتوعية والثقافة التي يجب أن تشيع بشكل موسع حتى نحول هذا المعنى من إطار السماع والعمل على استحياء إلى مستويات تتنافس فيها كل شرائح المجتمع في سباق خير لا ينتهي لا يقترن بفعل محدد ولا بفئة معينة ولا بزمن بعينه بل أن يكون معنى للعيش وأسلوب للحياة وسلوك للتعامل.