د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
تحول شهر رمضان الكريم، شهر الصيام والعبادة، إلى موسم مخصص للإنتاج الدرامي التلفزيوني الخليجي. ويعود هذا الأمر لبدايات ظهور الراديو والتلفزيون في الخليج ببرامج مثل «مشقاص» وأم حديجان وغيرهما، ولذا فهو ليس جديدًا. الجديد هو تغير أسلوب الحياة في رمضان مع الطفرة المعيشية وتحول بعض البشر لكائنات ليلية تميل للخمول نهارًا، والحركة المحدودة ليلاً. وتحول الاحتفاء برمضان لدى البعض من الترقب بالصوم والعبادة إلى الاحتفاء بالسهرات الرمضانية، والاسترخاء لساعات طويلة بعد إفطار مُتّخِمٍ أمام أجهزة التلفزيون. ساعات الاسترخاء والخمول الإفطاري هذه تعد أفضل ساعات التلقي الإعلامي، ولذا استغلت كساعات ذروة للبث التلفزيوني الفضائي حولت رمضان لموسم ربحي متميز بسبب كثافة النشاط الإعلاني.
التنافس المحموم حول الدخل الإعلاني، والربحية العالية حولت البرامج القصيرة المسلية إلى مسلسلات طويلة تتنافس في إنتاجها المحطات منها ما هو فكاهي مثل «طاش ماطاش» و»غشممشم»، أو ملحمي «كأولاد الحارة»، أو ميلو دراما سياسية اجتماعية مثل مسلسل «هوامير الصحراء» وغيرها. وبعبارة مختصرة تحول شهر رمضان إلى موسم تعصف به المسلسلات الفضائية التي تتفرغ الفضائيات بقية العام لإنتاجها. وتطلب التنافس المحموم سباق حول جذب وشد انتباه المشاهد، واستغلت إثارة اللغط والجدل كوسيلة دعائية ناجعة في مجتمع محافظ كمجتمعنا. فلا غرابة ن تُطعّم هذه المسلسلات بما يدهش أو حتى يصدم المشاهد. وتدريجيًا بدأت الفضائيات بتجاوز حدود القيم والأعراف المجتمعية ما استطاعت عامًا بعد الآخر لإبقاء المشاهد في دائرة بثها الفضائي التي غلب على الكثير منه التهريج، والتكرار، وضعف الحبكة الدرامية.
انتج في دولة خليجية مجاورة، مثلاً، مسلسل به كثير من مشاهد تعاطي المخدرات، وسفاح المحارم، والشذوذ الجنسي وعرضت على أنها جزء من تسليط الضوء على الجانب المظلم المسكوت عنه في مجتمع ظاهره الفضيلة. وتصاعد عرض مثل هذه المشاهد في قنوات أخرى وتحولت مشاهد السكر والانحلال الأخلاقي إلى مادة معتادة تتكرر شيئًا فشيئاً على أنها جزء من إرضاء فضول المشاهد باطلاعه على كل ما هو حميمي وخاص. واستمر الاستعراض الكاريكاتوري الساخر لبعض فئات المجتمع التي تشكل بعده الأخلاقي.
ولم يختلف هذا العام عن سابقه، لكن سقف تجاوز القيم والأعراف ارتفع شكلاً ومضمونًا، وظهرت علينا مسلسلات تطرح شخصيات تشرب الكلونيا، أو تستنشق البنزين، وأخرى تدور بعض أحداثها حول اللقطاء والعلاقات الحميمية مع الجيران وغير ذلك من مواضيع. وبعض المسلسلات صرف عليه الكثير ليأخذ الطابع التقريري شبه الوثائقي لمجتمعنا في مرحلة ما قبل الثمانينيات. ولم يعرض من المسلسل إلا حلقات قليلة إلا أن الكثير من الناس توقع النهاية المنطقية لهذا المسلسل، موضوع ليس جديدًا وسبق وصور في بعض الكتابات الأدبية وبعض الدراسات الاجتماعية العلمية، وهو أن المجتمع السعودي كان يعيش حياة أكثر انفتاحًا قبل أن يمر بفترة من التشدد الديني في الثمانينيات.
المسلسلات وسيلة إعلامية لها مرسل ورسالة ومتلقي، ولها مضامين تعرض بأشكال وصور مختلفة. وعندما يختل التوازن بين الشكل والمضمون، وبين الرسالة الإعلامية والمضامين الدرامية قد تنحرف الرسالة عن هدفها ويتم التركيز على الشكل لا المضمون. وهذه المسلسلات يشاهدها الجميع خارج مجتمعنا وتصل لكافة الدول العربية ولملايين المشاهدين ممن لم يزوروا السعودية ويفتقرون للخلفية المعرفية التي على ضوئها يمكنهم فهم الرسالة بالشكل الذي يريده منتجو المسلسل. ولذا قد تخلق لديهم صورة معممة مشوهة عن المجتمع السعودي.
والجميع اليوم يطالب بتغيير الصورة السلبية النمطية عن المواطن والمجتمع السعودي التي تعرضت لكثير من سوء الفهم المتعمد، والتشويه الإعلامي الخارجي، أو في أفضل الأحول للجهل وعدم المعرفة. والكاميرا التلفزيونية تعرض واقع يلامس الحقيقة لكنه واقع مختزل أحادي البعد؛ هذا في أفضل الأفلام الوثائقية فما بالنا بالدراما التلفزيونية! والتركيز في مثل هذه البرامج شبه التقريرية على نماذج اجتماعية محددة، وتضخيم صورتها بهدف التأثير الدرامي قد يفهم بطرق مختلفة ومن زوايا عدة. فالتصوير التلفزيوني يقدم جزءًا محددًا من المشهد أما الصورة العامة الكبرى فتضيفها مخيلة المتلقي. ولذا فيمكن القول إنه من الصعب أن يفهم مسلسل كهذا وغيره خارج المملكة بالصورة ذاتها التي أرادها منتجوه. بل إنه قد يفهم بطرق مختلفة ربما تكون سلبية من قبل شرائح المجتمع السعودي ذاتها، وخاصة الأجيال اللاحقة.
وفي الختام فيمكن القول إن الأعمال السينماتوغرافية الجيدة، بما في ذلك المسلسلات التلفزيونية، تحتاج لما هو أكثر من الإنتاج الضخم، أو التصوير الواقعي المتقن والمكلف، تحتاج لما هو أهم من ذلك وأصعب وهي الحبكة الدرامية المتقنة، والسيناريوهات والحوارات الدرامية العميقة التي تشكل لب العمل الفني التي تدور حوله أمور الإنتاج والإخراج الأخرى.