عبد الرحمن بن محمد السدحان
* كتبتُ قبل بضع سنوات مقالاً مطولاً تحدثت فيه عن ظاهرة (هجرة الأدمغة) من بلدان العالم الأول، إلى قارتي أمريكا وأوروبا وسواهما طلباً للعمل والرزق الحلال، واستشهدت في ذلك بما ورد في أحد التقارير المنشورة عامذاك من أن (470) ألف متخصص عربي هاجروا إلى الغرب من الوطن العربي خلال فترة لا تتجاوز خمس سنوات فقط، بين عامي 1985م و1990م يتصدرهم لبنان، الذي نال حصة الأسد من المهاجرين منه بـ(350) ألف مواطن لبناني، ركبوا موج الهجرة إلى عدد من الدول الغربية، وتحديداً الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وفرنسا وأستراليا.
* * *
* أما بالنسبة لمنطقة الخليج العربي (دول مجلس التعاون)، تحديداً فقد كان نصيب هجرة الأدمغة منها ضئيلة نظراً لصغر حجم الرقعة السكانية من جهة، وتوفر الفرص الوظيفية المتاحة محلياً في القطاعين الحكومي والخاص لاستيعاب المؤهلين علمياً ووظيفياً من السكان.
* * *
* من جهة أخرى، أزعم، بقدر من اليقين، أن الأرقام الآنف ذكرها قد تضاعفت حجماً أكثر من ذي قبل، لأن الأسباب المؤسِّسة لها تفاقمت هي الأخرى، من بينها استمرار تنامي مشكلة البطالة وهي لا ريب الوجه القبيح للفقر، واتساع الفجوة بين بعض بلدان العالم الأكثر حظاً من التنمية والأقل نصيباً منها، يُضاف إلى ذلك أسباب أخرى قد لا يدركها الحصر، أحسب أن من أهمها وأكثرها إلحاحاً التخلّف السياسي والاجتماعي أو الثقافي وإفرازاته في بعض تلك البلدان إلى درجة قد تفرض نزعة النزوح الجماعي أو شبه الجماعي فراراً من تلك التداعيات!
* * *
* أعود الآن إلى سؤالي الأول: لماذا الهجرة إلى الخارج من بعض دول العالم الثالث، والوطن العربي تحديداً؟ فأقول: أمور كثيرة هي المسئولة الأبرز عن هجرة العمالة خارج حدودها الوظيفية، طلباً للرزق، من أبرزها ما يلي: أن تزايد الكثافة السكانية في بعض المواقع الجغرافية وما تستصحب من ظواهر سلبية تغري الكثيرين إلى تجاوز الحدود الوطنية طلباً للعيش الحلال، وقد تنامت هذه الظاهرة مؤخراً من خلال الهجرات الجماعية بكل وسائل النقل المتاحة، برَّاً وبحراً، رغم تواضع وسائل النقل وبدائيتها في الحالين، وقد تستصحب هجرة البحر مآس تُودي بحياة العشرات، بل المئات من الأبرياء الذين قد لا يملك أحدهم أكثر من الرداء المتواضع فوق ظهره. والبعض الآخر يستخدم أسلوب التسلّل داخل أحشاء الليل وغَفوات النهار إلى هذا البلد أو ذاك، والعيش عيش الموغلين في الفقر مستترين بحجاب الليل. وقد يلجأ أحدهم أو بعضهم إلى الارتباط بالجريمة وسيلة للكسب غير الحلال، فينجح تارةً، ويخسر تارات قد يفقد بسببها حياته.
وقد تكون هناك مواقف أخرى تحرِّض على الهجرة خارج الوطن الأم، وإن تباينت أسباباً ووسائل، ويظل (الخطر) يكمن في حجم الهجرة وهو الرقم الأصعب والأهم في كل حال.
* * *
وبعد،
فالحديث في هذا الصدد طويل غارق في الشتات، وقد حرصت في مقال اليوم أن أهتم بأبرز الجوانب المتعلّقة بالموضوع، دون التوغل في التفصيلات، وأحسب أنه قد سبقني إلى طرح هذا الموضوع (مائة عكاشة) في أكثر من زمان ومكان!
* * *
بقي لي أن أقول قبل الختام: أن لهذه المشكلة جذوراً وظواهرَ وأسباباً في أعماق الألباب، وحلّها غير متاح بين عشية وضحاها، غير أن تكثيف التنمية، حَدَثاً وممارسةً وإنجازاً مرشح لتخفيف عبء هذه الظاهرة، أعداداً وآثاراً! ومَنْ يدري، فقد يكون لهذه الظاهرة جوانب إيجابية ومصالحُ مشتركة بين بلدان (الهجرة) ومستقبليها، لظروف وأسباب معينة لا تخفَى على ذهن كلّ لبيب!