محمد آل الشيخ
دأب الصحويون المؤدلجون على تصوير الماضي صورة مثالية، وكأن من كان يعيش فيه أناس أقرب إلى الملائكة، وتصوير الواقع الحاضر بصورة كالحة السواد وغير أخلاقية، يكتنفها الفساد والبعد عن ضوابط الدين والخلق السوي؛ وهذا غير صحيح، بل هراء محض؛ ففي كل عصر هناك الصالحون والطالحون، والأتقياء والفساق، وهذه حقيقة اجتماعية تاريخية، لا تروق للتيار الصحوي، حيث إنهم دائماً ما يصورون واقعنا بأبشع الصور وأشنعها، ليجعلوا لأنفسهم (سلطة وسطوة) على أنهم يحاولون إصلاحه، وتقويم اعوجاجاته وإعادته إلى نقائه وصفائه واستقامة أخلاق أفراده.
الهجمة الشرسة، والمغرضة، التي يتعرض لها (العاصوف) هي حملة يقودها الصحويون المؤدلجون؛ بعد أن وجدوا أن سلطتهم وسطوتهم تراجعت على المجتمع إلى الوراء، إلا أنهم مازالوا يطمحون أن يسترجعوا مكانتهم وسطوتهم ثانية؛ ولعل هذه الهجمة، وخوفاً من تكريس صورة حقيقية عن واقعنا قبل أن تعبث فيه كوادرهم فساداً من بداية الثمانينيات من القرن الميلادي الماضي، يعملون هذه الأيام بنشاط على تشويه هذا المسلسل، وغِش الأجيال الشابة، التي لم تعاصر كيف كنا وكيف أصبحنا بسبب صحوتهم القميئة المتخلفة، بادعاء أن هذا المسلسل (مفبرك)، ولا يحكي ماضينا بصدق وأمانة.
وأنا ممن عاصروا حقبة السبعينيات، أي ما قبل سيطرة الصحوة على المجتمع، وأستطيع بكل أمانة أن أقول إن المسلسل قد صور بدقة ما كان عليه واقع الناس اجتماعياً وأخلاقياً وتسامحاً آنذاك، وإن كان لدي بعض الملاحظات، فهي ملاحظات هامشية تتعلق ببعض التفاصيل في السيناريو التي لا تؤثر في قيمة هذا العمل الدرامي المتعوب عليه فعلاً، وفي تقديري أن مسلسل (العاصوف) هو نقلة نوعية في الدراما السعودية، من شأنها أن تحدث ردود أفعال إيجابية، فمثلما كان لمسلسل (وضحى وابن عجلان) امتدادات صورت الحياة البدوية، في عدة أعمال ناجحة فيما بعد، فإني على يقين أننا سنشهد مسلسلات كثيرة على غرار هذا المسلسل في المستقبل القريب، تتركز على (كيف كنا وكيف أصبحنا)، ونحن في أمس الحاجة لأعمال على هذا المنوال، فقد شوه الصحويون أربعين سنة عشناها حينما كانوا يسيطرون على ثقافتنا، وعلى ما هو حلال وما هو حرام، مع أن خطابهم الثقافي يرتكز في تفاصيله وفي إيماءاته والأهم في أهدافه البعيدة، على فرض فكرة (الولي الفقيه)، التي استقوها من النموذج الإيراني، وأصبغوها بصبغة سنية؛ أي أنه كان مشروعاً سياسياً، يهدف إلى تكريس أن المرجع في كل شؤون الحياة، دينية أو حياتية، يجب أن يكون في يد رجل الدين، الذي يكون له منفرداً دونما سواه (الحق الحصري) في تحديد ما هو مقبول وما هو مرفوض، حتى أصبحوا يفتون في أمور وتخصصات مدنية، لا يفقهون فيها شيئاً، أو يقيسونها بمقاييس ومعايير وأقوال لا تمت لها بعلاقة.
ومجتمعنا قبل أن يسيطر عليه الصحويون كان مجتمعاً متوازناً، سمحاً، فيه الخطاؤون وفيه الأتقياء، كما فيه المتزمتون وفيه المتسامحون، وكان فقهاؤه، وكذلك قضاته، في الأغلب غير مؤدلجين، يراعون الله فيما يقولون، بينما أن فقهاء الصحوة وقضاتها، إلا من رحم ربي، لا يتورعون في الحكم على من يختلفون معه بأقسى وأشد الأحكام، نصرة لتحزباتهم المسيسة، وتوجهاتهم الأيديولوجية المغرضة، حتى أنهم يتهمون، ويجرمون أفراد المجتمع من هذه المنطلقات، التي هي في نهاية الأمر ضرب من ضروب (الأهواء)، التي ما أنزل الله بها من سلطان.
وفي الختام أقول للنشء الذين لم يعاصروا الستينيات ولا السبعينيات من القرن الميلادي الماضي: مجتمعنا كان إلى حد كبير كما صوره (العاصوف).
إلى اللقاء