ياسر صالح البهيجان
الحروب الدمويّة التي تشتعل في الأوطان وينتج عنها الدمار والخراب والتهجير لا تنهي حياة الأموات فحسب، وإنما تقتل أيضًا طموح الأحياء وتنتج حالة اغتراب بين الإنسان وذاته وتصنع أحلامًا أسطورية يرفض الواقع أن يصادق عليها، ويظل الفرد المقاسي لألم الحرب في مرحلة تيه داخل صحراء الحياة دون بوصلة تدله نحو طريق النجاة والسلام.
مصطلح «الجيل الضائع» كان يُطلق على الشبّان والفتيات الذين بلغوا سن الرشد أثناء الحرب العالمية الأولى أو بعدها مباشرة، وهم كذلك شاهدوا أهوال الحرب العالمية الثانية، لذا كان جيلاً ضائعًا بحق، لأنهم ظلوا هاربين من الموت طيلة حياتهم حتى بعد أن توقف قرع طبول الحرب، واستمرت أصوات صافرات الإنذار بملاحقة آذانهم حتى في منامهم، وهو اعتلال شخصه الطب النفسي فيما بعد باضطراب ما بعد الصدمة وهو لا يقل ألمًا عن الإصابات المباشرة داخل ساحة المعركة.
سمّي ذلك الجيل بالضائع وفق الدراسات لأنه كان يعيش بلا هدف، وانغمس في الحياة الماديّة حد مراكمة الثروات دون تعقّل في كيفية إنفاقها، وبدت قناعاتهم مهتزّة وقدواتهم في الحياة هشّة. الحرب جعلتهم يؤمنون بأن كل القيم الإنسانيّة المعلنة كانت مجرد شعارات زائفة لا تنتمي للفعل الإنساني النبيل؛ لأنها في نهاية المطاف لم تعصم البشرية من الانجراف نحو حربين فظيعتين حملتا أهوالاً لا تُنسى.
في الأدب يشير مصطلح «الجيل الضائع» إلى مجموعة من المؤلفين الذين تتركز أعمالهم على حالة الصراع الداخلي بين الإنسان وذاته، وأيضًا تلك المؤلّفات التي تجعل من الثراء الفاحش والملذات الوقتيّة عاملاً جوهريًا في إنتاجها الأدبي، ومن المنتسبين إلى ذلك الجيل، إرنست همنغواي، وجيرترود شتاين، وف. سكوت فيتزجيرالد، وتي إس إليوت.
في روايتي «غاتسبي العظيم»، و»حكايات عصر الجاز» لفيتزجيرالد ورواية «الشمس تشرق أيضًا» لهيمنغواي لا نكاد نرى شيئًا آخر غير الحفلات الفارهة وسط شخصيّات تستمتع بكسر الأعراف المعتادة وتجاوز حدود الآداب العامة، في حالة تمثل رغبة الجيل الضائع بالتمرّد والانتقام من كل ما ينتمي للثقافة البشرية من مبادئ وقيم يرى بأنها جوفاء وخالية من المعاني السامية.
كما أن أهوال الحروب جعلت من الجيل الضائع حالمًا إلى درجة اللا واقعيّة، ومحطمًا في الآن ذاته حد اليأس، وما بين الحلم واليأس راح ينسج إنتاجاته الفكريّة والأدبية والثقافية في شتى الميادين، بل وحتى في علاقته مع ذاته وبالآخر المختلف.
وإن كانت الحرب العالمية الأولى مثلت علامة فارقة في شخصية جيل بأكمله لدى المجتمعات الغربية، فإن نكسة 1967 في حرب الأيام الستة ضد الكيان الصهيوني شكلت نقطة تحوّل بارزة في ذهنية الإنسان العربي وصنعت جيلاً ضائعًا من العرب الراشدين آنذاك بعد سقوط الفكر العروبي وتبدد أحلام الوحدة العربية، والإقرار الذريع باستحالة هزيمة المحتل عسكريًا.
وفي الأدب العربي طغت الرومانسية السوداء على معظم أعمال كبار الروائيين، وتحول الموت إلى عنصر سردي رئيس ومحرك للشخصيّات الروائية بوصفه محفزًا على الحياة، ودافعًا للبحث عن الذات وهويتها كما نجده في روايات غادة السمان وتحديدًا روايتها «كوابيس بيروت» التي يتيه فيها البطل بين الوهم والحقيقة في واقع عصي على الانكشاف.
ولم يخلُ النتاج الأدبي العربي لدى الجيل الضائع من جلد الذات والسعي إلى تجاوز الأعراف وأحيانًا كسر التابو الاجتماعي كما لدى أحلام مستغانمي في روايتها «عابر سرير» ورواية «شقة الحرية» للمفكر الراحل غازي القصيبي، وآخرين كثر آمنوا بضرورة إعادة بناء ذهنية المجتمعات العربية إما بتمجيد حياة الأوائل والعودة إلى العروبة الأصيلة أو بالتوق لحياة تشابه النموذج الغربي.
ماذا عن الحرب الدائرة الآن في سوريا والعراق وغيرها من دول المنطقة؟.. يبدو أن التاريخ يعيد كتابة ذاته من جديد، ونحن مقبلون على أجيال ضائعة بفعل الحروب الكارثية التي تشهدها المنطقة، حتمًا ستشهد المجتمعات العربية مفكرين وكتّاباً جدداً سيحملون لواء التمرد الفكري والسخط على واقع أمتهم، ولكن هذه المرة سيكون صداهم أعنف ممن سبقوا، لأن حجم الدمار لم يأتِ بسلوك عدواني من خارج حدود الأمة العربية فحسب كما كانت في زمن النكسة، وإنما بتواطؤ بعض دول العرب على بعضها، ودعم بعضهم للمعتدي أيًا كانت صفته.