حمّاد السالمي
* حقيقة.. إن استنطاق المفردات، واستحضار الماضي في تاريخ المجتمعات؛ لا يكفي للحكم على الشعوب. من ذلك ما اكتسبته اليمن في قديم عهدها من وصفها بـ(السعيدة)، وقد أحال مؤرخوها سبب هذا الوصف؛ إلى الثراء، ومملكة سبأ، وسد مأرب، والبن، أو قربها من الكعبة، ومنعتها في وجه غزوات الاسكندر الأكبر أو نابليون.. إلى غير ذلك من تسبيبات ما تلبث أن تنهار أمام ظاهرة اغتراب أبنائها وهجراتهم المتوالية إلى الشرق والغرب والشمال منذ آلاف السنين إلى اليوم، وتعرضها للغزو والحكم من قبل الأحباش والفرس على فترات، حتى أن الكعبة المشرفة التي هي واحدة من أسباب سعادتها -كما قالوا- تعرضت للغزو من قبلها بجيش أبرهة الحبشي..!
* لن يستطيع أحد إقناع اليمني المقيم أو المغترب أن هذه البلاد الطاردة لأبنائها منذ عهودها الأولى، والمتسمة بالفقر والجهل والخوف والقتل والتدمير؛ كانت في يوم من الأيام سعيدة..! اليمنيون هم على رأس قائمة المغتربين العرب في بلدان عربية وعجمية كثيرة. يكاد لا يوجد بلد في هذا العالم إلا وفيه مغترب يمني، بعيد عن بلده الذي كان يقال له إنها سعيدة. كيف تكون سعيدة؛ وقد جنى عليها ذات يوم؛ فأر لعين، تسبب في هدم سدها المنيع، وتتعرض اليوم لحوثي عميل، يعيد إليها سيرة السيطرة الأجنبية من قبل الفرس والأحباش، ويذيقها ويلات الجوع والجهل والمرض والخوف..؟
* إذا أردت أن تعرف تاريخ بلد ما؛ وهل هو سعيد أم تعيس؛ فانظر في شعره، وتحسس نفثات أدبائه، من اغترب منهم أو اقترب. حتى المقيم منهم؛ تشعر من شعره وشعوره؛ أنه يلوك مرارات الغربة في وطنه، كما عبّر عن هذا الشاعر المنحى؛ (الدكتور عبدالعزيز المقالح)؛ في آخر قصيدة له وهو على سرير مرضه. قال:
أنا ليس لي وطنٌ
أفاخر باسمهِ
وأقول حين أراه:
فاليحيا الوطنْ
وطني هو الكلماتُ
والذكرى..
وبعضٌ من مرارات الشجنْ
* ضاعت اليمن بجنايتين. جناية فأر، وجناية حوثي. إنها قصة شعب حوصر في وهم السعادة دهرًا، وعاش قصتين أليمتين: فأر الاغتراب، وحوثي الاحتراب. ما بين الفأر والحوثي، كانت التعاسة التي قوّضت وهم السعادة. هذه الحالة لليمن الشقيق، جسّدها مؤخرًا الشاعر السعودي: (عبدالله بن مرزوق بن جملا السفياني)، في هذه القصيدة العصماء، التي تذكرنا بشعر كبار الشعراء العرب، في زمنيهم: الجاهلي والإسلامي. قال:
من مبلغ الثكلى بأرض العثرب
أن لا كلالة في سلالة يعربِ
أو مبلغٍ سعد العشيرة أنني
ألقيت نظرة معجَبٍ متعجب
أو مسمع الأنصار صوتًا ناحبًا
يستلّ من حسان فرحة يثرب
أو مقنع الثأرات والغارات أن
يطرقن بابًا غير باب المندب
ما بال أقوامٍ عدوا وتقهقروا
وتمنطقوا بجراءة المتهيب
عطفاً على من جاء ثاني عطفه
ثمنًا لصولة رأيه المتذبذب
إن الشجاعة والمروءة باعتا
مأواهما والدهر ليس بمعتب
لا خير في دنيا بغير حميّةٍ
إقدام بكرٍ أو شجاعة تغلب
لا عزةٌ قعساء بعد تقاعسٍ
في رأس مالٍ لا يجود بمكسب
فالنافرون إلى لقاء دواجنٍ
يستنفرون أمام ذات المخلب
من ذا الذي يشفي غليل قلوبنا
بعد الغياب وبعد طول ترقب
وعدًا يقول اليوم ها أنذا أنا
عن قائلٍ بالأمس كان أبي أبي
أو قائلٍ وعدًا وأنجزه غداً
قسراً على ظهر الزمان الأحدب
يا ليت (كان) جابهت أخواتها
بإجابةٍ ترضى بهز المنكب
فوعودهن البدر في عز الضحى
وعهودهن الشمس بعد المغرب
ما كل من حمل الأمانة صانها
والقلب مضغة حاله المتقلب
تباً لمن باع الأمانة بالخنا
من أجل كسبٍ أو حيازة منصب
لم يبق دارٌ لم يذعذع شؤمها
أو شارعٌ وغرابه لم ينعب
فرجوت بين منددٍ ومهدّدِ
ويئست بين مصدقٍ ومكذب
وضحكت بين مهللٍ ومكبرٍ
وبكيت بين مسلم ومرحب
وطناً بلقمة فقره متشبع
وبضعفه وبشعبه المتشعب
فسماؤه ذر العيون وأرضه
عين السماء وماؤه من طحلب
سكناته تطغى على حركاته
في ظل دوحة غائب ٍ ومغَيّب
الفأر والحوثي متفقان في
تشتيته وجلائه عن مأرب
والبحر والطوفان مختلفان في
من يستجير بدمعة ٍ لم تسكب
يا أيها المستأثرون بحكمةٍ
وبحشمةٍ للعارب المستعرب
الغانمون الغارمون تكرّماً
رغماً على أنف الزمان الأشهب
الأبعدون مدىً لأبعد سؤددٍ
الأقربون يداً لحال توثب
أنتم بنو قحطان هود جدكم
وزعيمكم عمرو بن معدٍ يكرب
جودٌ ومجدّ من سلالة ماجدٍ
نعم الزعيم ونعم أصل المنسب
أفلا تغيثون الصريخ بأرضكم
أفلا تؤرقكم ملامة مغضب
أوليس منكم حازم متحزم
أو ثائر من صلب شيخٍ منجب
وا ضيعتاه لقاصرٍ يبكي دماً
ويصيح مؤتزرًا جريرة مذنب
وا حسرتاه على فقيدٍ لم يزل
يزجي أنيناً من ضميرِ معذّب
وا خيبتاه إذا تنكرتم لمن
كان الصفيّ وكان خير مقرب
* نعم.. نعم.. واأسفاه على بلد اتفق الفأر والحوثي على تشتيته وجلائه، وواه خيبتاه من شعب؛ يتنكر للجار والصفيّ ومن كان خير مقرّب.