«الجزيرة» - أحمد المغلوث:
كان موقع «الخباز» يقع جنوب المدرسة الابتدائبة الأولى بمدينته المبرز وعلى بعد خطوات من سوق القيصرية وكان صاحبه «أبي خليفة» قد خصص جزءاً من بيته ليكون مخبزاً لإعداد وإنتاج الخبز الحساوي الأحمر الشهير وكذلك إعداد اللحم المشوي.. وكان الخباز «الشعلان» يعتبر الخباز الأشهر في المدينة لا ينافسه في الشهرة إلا الخباز «الضمن» لكن صاحبنا الذي تذكر هذه الحادثة الطريفة. كان شاهداً عليها. فلقد أرسلته والدته ليحضر ما يحتاجه البيت من خبز للإفطار، ولم يكن بيتهم في ذلك الوقت بعيداً.. عن مخبز «الشعلان» وكان بإمكانه أن يذهب إليه راجلاً لكنه يفضّل دائماً أن بقود «سيكله الرايلي» المزدانة أعمدته بشرائط ملونة تم «سفها» بصورة فنية. ولا يُعرف سبب ذلك هل هو عائد لرغبة في نفسه للعنطزة والفشخرة. وحب الظهور بين أقرانه من فتيان الحي أو أنه يحب أن يريح رأسه من حمل فوطة الخبز التي عادة ما تكون ساخنة. ففي «سيكله» سلة مستطيلة تم تركيبها في المقدمة.. لكن من المؤكّد أن اهتمامه بركوب «سيكله» نابع من شيء داخلي لم يفهم كنهه. لكن الذي يعرفه أنه يشعر بمتعة خاصة وهو يقوده ويطوي به الطريق المترب طياً.. وصوت جرسه الذي يحركه بين وآن وآخر لافتاً أسماع ونظر من يصادفه من المارة وهم كثر في هذا الوقت بالذات قبل صلاة المغرب. وعلى الأخص ونحن في شهر رمضان المبارك. فهؤلاء عائدون من سوق القيصرية بعد تبضعهم من حوانيتها العديدة وآخرون قادمون من سوق بسطات الشهر الفضيل والذي كان يحتل مساحة كبيرة بجوار سوق التمور. وسوق «الجت» البرسيم.. وسوق البدو، حيث تعرض «عكك» السمن الخالدي والأقط. إلى جانب بائعات الورقيات والدجاج والبيض.. وبحركة ثعبانية ينسل «بسيكله» عابراً البسطات. ومحدثاً جلبة بصوت جرسه. وحتى صوت العجلات. ها هو الآن يقف أمام مخبز «الشعلان» وقبل أن يوقف «سيكله» على الحامل راح يحرك الجرس أكثر من مرة. لأمر ما في نفس يعقوب. فهو يعلن عن قدومه. فالخباز أبو خليفة يعرفه جيداً. فهو كما يُقال زبون دائم. كان يقف بجانب عتبة المخبز العشرات. وفجأة خرج صبي الخباز وهو يقول له: الله يهديك لقد تأخرت عن خبزكم. تراه جاهز لكن اصبر «عمي» بيخبز لكم كم قرص «حنيني» والحنيني هي خبزة بحجم صغير لكنها مشبعة بالقرفة والحبة السوداء وشيء من الهيل. وبجانب وقوفه مستنداً على جدار المخبز كان هناك رجل برفقته ثمانية أطفال وآخر يحمل «قفة» في يده ينظر إليهمبدهشة وربما كان لسان حاله يردد عجيبة كلهم أولاده.. عندها شعر الرجل بنظراته الحادة وتساؤلاته الصامتة. فلم يتردد أن التفت إليهم مشيراً بأصبع «السبابة» وهو يردد والله إذا ما ما وقفتوا زين. لأبلغ آباءكم وأحرمكم من قرص «الحنيني»، وأضاف وهو ينظر شزراً للرجل: عيب حركاتكم جعلتم الرجال «يخزكم» بعينه. وفيها عتاب وأشياء ما يعرفها إلا الله. أحس الرجل صاحب القفة بالندم لنظراته التي أثارت حفيظة الرجل وقال: سامحني يا عم ما قصدت أن أحسدهم. لكن ما زلت أتعجب كلهم يتشابهون وأنت تقول: بتبلغ آباءهم. والله أمر عجيب. على العموم المسامحة احنا في الشهر الكريم. وشياطين الحسد محبوسة لا تخاف. أولادك ما يجيهم شر إن شاء الله.. والله يبارك لك فيهم.. كان الرجل صاحب الأولاد مقطباً جبينه وقال بعدما اعتدل في وقفته: صدقت الشياطين ما لهم مكان في رمضان. ومن عواده, وأضاف المهم نأخذ خبز رمضان قبل الأذان..!